شعار قسم مدونات

أزمتنا الآن

مدونات - مسجد

لا يخفى على كلّ مسلم أنّ للعقل دور مهمّ في تطوّر الفكر الإسلامي، أخرجه من دائرته الضيّقة، ليناقش قضايا فكرية فلسفية عميقة، ضاهى فيها الفلسفة اليونانية التي افتتن بها الكثير، وأسقط معالمها، وأثبتَ عدم صلاحيتها. فانطلاقاً من سورة براءة، والمتأمّل في هذه السورة يجد أنّ الله سبحانه حرّض في بداية الدّعوة الإسلامية إلى مُجابهة المُحاربين لشريعتنا الشّريعة السّمحة. فدعا تعالى في معظم السور إلى الجهاد والنّفير: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.." الآية:73.
 

وغيرها من الآيات التي تبيّن مكانة القوّة في نشر الرّسالة الرّبانيّة ومواجهة المُكابرين، لكن في آخر السّورة نوّه بشيء آخر، وأكّد لخصومه أن الإسلام لا يواجه فقط بالسلاح، ولا يدعو فقط إلى القتال، وإنما دين علم وعقل كذلك، فقال تعالى: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ" الآية 122.

من هنا فتح الإسلام باباً آخر للبشريّة للمشاركة في التّأطير والتّوجيه، فتح باب العقل بمصراعيه لمواجهة الشُّبَه والشوائب التي من شأنها أن تكدّر عقيدة المسلم النّقيّة، شقّ طريقا آخر كذلك لتبيان مقاصد الشّريعة وروحها: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..". فخاضوا كلّ محيط كما ذكر -الإمام الغزالي- خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور. يقول محجوب بن ميلاد: ولا ريب أن مُطالع رسوم هذه الحرب الكلاميّة يشعر شعوراً قوياً بأن المسلمين بعد أن غامروا عسكريا ففتحوا البلدان ودوّخوا الدّول، أرادوا مغامرات من طراز جديد: هي مغامرات الفكر.

شرّ الأمور التي تقفُ عقبةً في ارتقاء الأمم، وازدهار الحضارات والشّعوب هيَ التقليدُ الأعمى، والاكتفاء بما نُقل عن الأوائل دون تحوير أو مراعاة ظروف التّنزيل، والتّواكل على حضارة بائدة لانزال نفتخر إلى حدّ الآن بجهلنا لها.

إنّ للعقل مكانةً عظيمةً في الإسلام، هذه الملكةُ التي يُناط بها الفهم والتّصوّر انطلاقاً من الوحي، وبطرق التّفكير التي أرشد إليها الشّرع لأنّها أقرب إلى الصّواب وأبعد من الزّلل، التي من أجلها أقرّ رسولنا الأكرم معاذ بن جبل -في الحديث المشهور رغم ما قيل فيه- وضرب كتفيه -عليها- وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضى رسولُ الله. حين قال معاذ: أجتهدُ رأيي ولا آلو. هذا الرّأي الموفّق والمسدّد بوحي الله هو العقل.

من أجلها كذلك ألّف الأصوليون في مصادر التّشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه، واعتبروا حجيّة القياس والمصلحة المرسلة.. وكتب فيها ابن تيميّة الحرّانيّ كتابه "درء تعارض العقل والنقل" أو "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" وقد قرر فيه أنه لا يمكن تعارض صحيح النقل مع صريح العقل في ديننا الحنيف، أما الدين المحرّف فإنه يمكن أن يفترق مع مستجدّات العلم ومسائل العقل. وهذا ما دفع كذلك ابن رشد لتكريس سني عمره للتّوفيق بين حكمة الشّريعة وشريعة الحكمة، في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال".

ولمَ لا؟ والعقل نورٌ، والإيمانُ نور!
لذا كان لزاماً علينا أن نحاولَ حلّ مشكلة أزمة "دارنا العقلية" وأن نفتح المجال للعقل المسترشد بنور الشريعة لحلّ أزماتنا ومعالجتها.. هذا العقلُ الذي تمّ في واقعنا التّقليص من رؤاه، وتقزيم مداه، وتحجيره ليس في نطاق الدّين فقط، بل في شتّى مجالات الحياة.. ويُتّخذ آلةً للمعرفة والاستبصار، وفكّ شفرات حياتنا المعقّدة!
 

ولمَ لا؟ وهو أهلٌ لذلك وزيادة!
لقد آن الأوان لمدارسنا وجامعاتنا أن تُنتج للأمّة عقولاً تفكّر وتحلّل… لا أوعيةً تَحفظُ وتجترّ ما قيل دون تمحيص، وتكوين العقل النّاقد، لا المحافظ… آن لها أن تُعيدَ النّظر في منظومتها ومناهجها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قطب ركام العقل المتجمد. كيف ذلك؟ والآلات التي لا تُستعمل تصدأ، ثمّ تتآكل، ثمّ تضمحلّ.. وهذا ما حدث للعقل العربيّ عندما تعطّل عن التّفكير.. فالعقول تتوالد، فتنجبُ أفكاراً.. ولا خير في عقل عمّر دهراً ولم يُنتج شيئاً! فكلّ شيء يُستعمل في أوطاننا العربيّة استعمالاً فاحشاً إلا العقل، حتّى الأجسادُ أضحت سلعاً وبضائع تُعرض للاتّجار فيها، في حين العقل مغلّف ومحجورٌ عليه!
 

حتى الأقلام التي من شأنها حمل الرّسالة بإيقاظ الضمائر النّائمة، وتحريك الهمم الفاترة، ومواكبة مستجدّات العلم، أصبحت لا تقوم بعملها المنوط بها كالدّبابات والمدافع في البلدان العربية تصدأ ولا تفعل شيئاً سوى الاستعراضات.. ولا تعالج من المواضيع إلا أحقرها، ومن البحوث إلا أرذلها.. وهكذا في كلّ ميادين المعرفة.

فهكذا أرادُونا أن نكون عبارة عن "رقم" عليه غُبارُ الذُّلّ والهوان في دواليبِ المدرسة والإدارة والشركة.. دونَ اسْمٍ أو هُوّيّة، والذّكيُّ فينا هو من أثبتَ وُجوده، ولم يَمْضِ على الطّريق الذي رسموه إليه، ونقَشَ اسمه بأظافره على جبين التّاريخ. هكذا أرادُونا أن نكون "صَبّاغُو أحذية" نبكي لبُكائهم، ونُغَنِّي غناءهم ومنشدهم، نثورُ لأفكارهم ونَرضَخُ ونُذْعنُ لأوامرهم، نُصَفّقُ لأباطيلهم ونَرقُصُ على ألحانهم.. والعاقلُ فينا من استفتى قلبه وسلكَ ما أملاهُ عليه، وأنقذَ قيَمه ومبادئه من وَحْلِ العبوديّة الطّوعية وأعلنَ عن وحدانيّته لله عز وجلّ. فالعقلُ كثيراً ما يلاحظ دقائقَ الأمور، فينتقدها ويحذّر منها كي لا تتعاظم رويداً.. وتسري في جسد الأمّة سريان السّرطان، فتصيرُ داءً وبيلاً يصعبُ مداواته إن أردتَ العلاج، أو استئصاله إن قصدت الحدّ منه.

إنّ شرّ الأمور التي تقفُ عقبةً في ارتقاء الأمم، وازدهار الحضارات والشّعوب هيَ التقليدُ الأعمى، والاكتفاء بما نُقل عن الأوائل دون تحوير أو مراعاة ظروف التّنزيل، والتّواكل على حضارة بائدة لانزال نفتخر إلى حدّ الآن بجهلنا لها، وعجزنا عن حمل مشعلها الإنسانيّ المنير.. إنّنا لا يجبُ أن نفقدَ ثقتنا في حضارتنا الإسلاميّة وتراثنا العربيّ لأنّه أساس ثقافتنا وأصالتنا، وإلا فمن شكّ في الأصل لن يبنيَ شيئا!

إنَّ تحريرَ فلسطين من أيادي العابثين، يقتضي ويستوجبُ تحريرَ العقل العربيّ من ركام التّبعية والجهل.. فلا خير في أحدهما إذا بقيَ الآخرُ مُستعبداَ مقهوراَ في زنازن ودهاليز الوطن!

إنّنا حقا في حاجة ماسة الآن أكثر من أيّ وقت مضى إلى معتزلةٍ جدد، كي تتّقذ جذوة عقل المسلم الخامد الجامد من جديد. إلى أطبّاء الفكر، لتشريح العقل العربيّ، والتّنقيب عن أسباب كمونه وتعطيله، والكشف عنها، لإعادة تشغيل خلاياه البائرة الكاسدة من جديد، وبعث روح النّظر والاجتهاد فيه. ولا خير في وطن فيه أماكن لبناء الأجسام، بينما لا نجد فيه ولو مكاناً واحداً لبناء العقول وترويضها وشحذها.. وما المكتبات ودور الثّقافة -لمن سيعقّب بعد هذا ويقول هناك مكتبات ودارات السّخافة- إلا أوكارٌ وأسواق، فيها كلّ شيء إلا الثّقافة!

أزمتنا الآن أنّنا أهملنا "درانا الفكريّة" وأيّما إهمال! بينما بجلّنا وقدّسنا ما لا يستحقّ التّبجيل من النّصوص الجامدة والأفكار البائدة، وهنا مكمن الخلل.. لأنّنا قد نصلُ إلى الحقيقة الموجعة التي تقول -وقد وصلنا إليها-: العقلُ في الوطن العربيّ لا قيمةَ له ولا اعتبار.. كن غبيا، كن أحمقاً، كن ما استطعتَ كي تعيـش معنا! وهذه حملةٌ شائنةٌ لإقبار العقل، بل لدفن إنسانيّة الإنسان، وخرقٌ لحقّ طبيعيّ من حقوقه.
 

صدقا، إنّ العينَ لتكذب، والأذن كذلك وسائرُ الحواس، لكن النّاظر المتبصّر بعين الفكر النّيّر، الذي جعلَ الحقَّ ضالّتَه ينشدهُ أنّى وُجد وحيثما ذهب، لَعمري ما كذب في رؤيته يوماً، ولا اعتراه التّزييف! فقد يُخطئ أحيانا، لكن يظفر بأجر الاجتهاد وبذل الجُهد للوصول إلى الحقيقة.

إنَّ تحريرَ فلسطين من أيادي العابثين، يقتضي ويستوجبُ تحريرَ العقل العربيّ من ركام التّبعية والجهل.. فلا خير في أحدهما إذا بقيَ الآخرُ مُستعبداَ مقهوراَ في زنازن ودهاليز الوطن!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.