شعار قسم مدونات

القرآن يعترف بمعارضيه

blogs - قرآن الفاتحة
وأنت ترتل القرآن الكريم وتدندن بآياته يصادفك أكثر من صوت ويحاورك أكثر من طرف خارج دائرة الإيمان والحق والخير، فتصغي إلى ذوات كثيرة خارج دائرة ذاتك، حيث تخرج اللغة من دوائر الإبلاغ والبلاغة إلى دوائر اتصالية وتواصلية راقية، تمثل أوفى ما تنزع إليه النظرية القرآنية من مبدأ التعارف الإنساني والاعتراف بالآخر والتعرّف على الذات الكونية والتعريف بقيم الحق والخير والفضيلة.
 
فالعقل التواصلي الذي أنشأه القرآن الكريم قبل أن يصوغ هابرماس نظريته، ومسلكه التداولي الذي رسمه قبل أوستين، يشكّل مدخلا ضروريا لاستكشاف منطق الحوارية الذي أنشأه في ظل كون دلالي يرشّح الحوار والتواصل بديلا عن القوّة والعنف فيؤكد قوة المنطق دون منطق القوة في مواجهة الخصوم والتصدّي للمكذّبين والرافضين لدعوته.

على هذا النحو يقرّ القرآن الكريم بحضور قصص أبناء الأنبياء ونسائهم الذين آثروا دائرة الباطل على دائرة الحق، ويسرد أطوار مسيرتهم المعادية لمسيرة أصحاب الرسالات.

إنّ القرآن الكريم إذ يفتح آياته لاستعراض خطاب الشيطان المعارض، فيصغي إليه ويردّ عليه ويوفّر له فرصة تحقيق رغبته وإنجاز وعده، فإنّما يسطّر لنا نموذجا عاليا في الاعتراف بالمعارضة و ينسج منهجا قويما في احتضانها بالإمهال والإصغاء والإقرار برؤيتها ضمن رؤى أخرى مغايرة.

ولم يستنكف القرآن الكريم في المستوى نفسه من عرض أطروحة المكذبين بألوهية القرآن ولا برسالة الأنبياء، فعرض سردياتهم الاستفزازية التي ترشق التهم الناسفة لقدسية النص فتسمه بالأسطورة والشعر والسحر وتنعت الانبياء بصفات لاذعة دون حرج أو إقصاء لمشروعيتها النصية ضمن مشروعيات نصية موازية.

فكم من صوت معارض دخل في حوار مباشر مع الأنبياء وأهل الحق وأصحاب الرسالات، فذا صوت فرعون يبدو واضحا جليا إذ يدّعي الربوبية "أنا ربكم الأعلى" وكذا صوت الشيطان إذ يصدح "أنا خير منه" فتندمج هذه الذات المتمردة والمتعالية والمارقة مع ذوات مؤمنة راضية مسلمة ليتحقق التذاوت التام ، بمعنى اندماج أكثر من ذات في سياق تجربة بشرية متفاعلة مع واقعها إقرارا بحق التنوّع والتعدّد والاختلاف.

وبهذا المعنى لا تتأكد قيمة الذات ولا يتعرّف المؤمن على ذاته إلا من خلال ذوات أخرى ، حيث لا يتحقق معنى الإيمان إلا من خلال معاينة خطاب الكفر، ولا يتحقق معنى القداسة والطهارة إلا بالقياس إلى منطق المدنس والنجاسة .

فيستمد الإيمان مشروعيته حينئذ من دائرة الاختلاف مع الآخر، والاعتراف بحقه في المغايرة والتمايز، طالما أنّ دائرة الاتصال متسعة لمختلف الأصوات والمواقف دون صدام أو إقصاء، ذلك أنّ حجّة الحق قادرة على توليد مختلف البيانات والأدلة على وجاهتها في ظل وجود الآخر، في إطار تقدير حقيقته التي تعتبر تنويعا على حقائق غيره.

فكم من صوت معارض دخل في حوار مباشر مع الأنبياء وأهل الحق وأصحاب الرسالات، فذا صوت فرعون يبدو واضحا جليا إذ يدّعي الربوبية "أنا ربكم الأعلى".

وعلى هذا النحو يقرّ القرآن الكريم بحضور قصص أبناء الأنبياء ونسائهم الذين آثروا دائرة الباطل على دائرة الحق، و يسرد أطوار مسيرتهم المعادية لمسيرة أصحاب الرسالات لينقش معالم رقيقة ودقيقة في التواصل الإنساني الذي لا يلغيه الاختلاف والتباين .

إنّ القرآن الكريم إذ يزاوج بين عرض منطق الخطاب المعارض وحجة الخطاب المعاضد، يضع أتباعة إزاء استراتيجية تواصلية لا تخرج عن هذه الدائرة الايمانية الكونية التي تلخص في قاعدة التباين والتبيين ونظرية التضاد والتوافق، اختزالا لمنظومة كونية معقدة ومركبة لا تحكمها رؤية أحادية بقدر ما توجهها سلطة الاختلاف والتنوع في إطار التعايش والتسامح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.