لكأنما أفقَدَه غدرُ الزمانِ وأحزانه ُ ثقتَه في قيمة نفسه، حتى لم يعد له مطلبًا من حبيبته إلا أن تقف ساعة فقط من الوقت لتستمع إلى شكواه، وتستجيب لضراعته في رجائها أن تقف!
وبعد هذه المقدمة بعدة أبياتٍ، يسرد تميم قصته -وقصة أكثرنا في هذه الأيام- مع الشجن الأصيل في تركيبة أيامنا، في خماسية رائعة، تناطح الكثير مما قيل في الشعر العربي قديمه وحديثه في الحزن. وهي التي صدْرُ أولها "أنا عالمٌ بالحزنِ منذُ طفولتي"، وعَجُز خامسها "وإن ظلَّ في مخلابِهِ فهو آكلُه!"، ولكن تحتاج هذه الخماسية إلى رحلة خاصة بها حتى لا نبخسها حقها. وإنما أشرتُ لها تعظيمًا لقدرِ هذه القصيدةِ في مجالها.
أما موضوعنا اليوم، فهو عن السياق السلبي الذي عكسه الشجن والحزن على ذكر الأمل في القصيدة، حتى تبرأ منه تميم، ورآه عبئًا يجب التخلص منه. حتى ساواه بالموت! فالشطر الذي ذكرتُهُ في العنوان "فكن قاتلَ الآمال أو كن قتيلَها"، سبقه بيتان يشعَان قنوطًا من الأمل، ولا يتركان اختياراً ثالثًا بين إماتة الأمل، وموت صاحبه.
فإنّكَ بينَ اثنَيْنِ فاخْتَرْ ولا تكُن *** كمن أوقَعتْهُ في الهلاكِ حبائلُهْ
فمن أملٍ يفنى ليَسْلَمَ ربُّهُ *** ومن أملٍ يبقى ليهلِكَ آمِــلُهْ!
حكم تميم بأن مشكلتنا مع دهرنا مستعصية، ولا حل لها إلا بسفينة تسافر عبر الزمن تذهب بنا للأمام أو الخلف في أدهُرٍ أرفق بنا. فإذا استنكر ساكنوها قنوطَنا وهروبنا، قلنا لهم تفضلوا مشكورين وعودوا بالسفينة إلى زماننا. |
كيف يتردى حال الأمل إلى أن يراه صاحب الأبيات رسولًا للهلاك؟ أليس الأمل هو هبة الأقدار للإنسان لكي يتمدد داخل صاحبه، فيملأ فراغات كيانه، وثقوب وجدانه. فيخرج به كَدَر الواقع إلى صفو الخيال، ومن ضيق الانكسار، إلى مُتسَّع الانتظار، كما قال شاعر آخر:
أعلِّلُ النفس بالآمال أرقبُها *** ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ
لكن بحسب أبيات تميم، فليس أمامك سوى خياريْن. إما أن تتخلص من كل آمالك، التي تلح عليك، وتُورثُك الحسرة لخيبةِ سعيِك في سبيلها. فتسْلَمُ نفسُك وإن ظاهرًا. أو تظل متعلقًا بها، فيزداد تجذرها في أعماقك، فيتحول هذا التمدد لحظة الفشل في تحقيق الأمل إلى أخطبوط عملاق من الشجن والألم، تلتف أذرعُهُ حول ما تبقى من روحك، فتخنقها تمامًا.
لم يكن غريبًا في الحالة النفسية المسيطرة على الشاعر في هذه القصيدة، أن يكون ختامها ببيتيْن قاسييْن في القنوط. وأقسى ما فيهما هو تحققهما في الواقع، حتى أراهُما قد أصبحا شعار جيل شباب الربيع العربي المأزوم، رغم أنهما سابقيْن على أحداثِه بسنوات..
أرى الدهرَ لا يرضى بنا حُلفاءَهُ *** ولسنا مُطيقيهِ عدُوًّا نُصاولُهْ
فهل ثمَّ من جيلٍ سيُقبِل أو مضى *** يبادلُنا أعمارَنا ونبادلُهْ؟!
حكم تميم بأن مشكلتنا مع دهرنا مستعصية، ولا حل لها إلا بسفينة تسافر عبر الزمن تذهب بنا للأمام أو الخلف في أدهُرٍ أرفق بنا. فإذا استنكر ساكنوها قنوطَنا وهروبنا، قلنا لهم تفضلوا مشكورين وعودوا بالسفينة إلى زماننا، وصولوا وجولوا كما فعلتم بأيامكم! لكن رغم ذلك، يشعرني البيت الأخير بتمسك قائله بخيطٍ رفيع مع أملٍ خفي. فهو يقر أن المستقبل سيحمل ولاشك جيلًا أفضل من جيلنا، يتسيّد زمانَه وأسبابه.
التخلص من عبء الأمل ومسؤولياته مطلقًا، أراه تحت بند الخلاص الكاذب. إذ لا مفر من أن نأخذ الآمال بقوة لنصل إلى خلاصنا اللائق، على ألا نخلو من مرونة ماهرة للانحناء تحت وطأة عواصف الواقع. |
ولتميم مقطع شعري في قصيدة أخرى، أكثرُ تعبيرًا عن دستوره في الأمل، ولعلّهُ يعبر عن مرحلة نفسية أفضل قليلا:
من كان ذا حُلمٍ وطال به المدى … فلْيَحْمِه
ولْيَحمِ أيضًا نفسَهُ من حُلْمه
فالحلمُ يكبُرُ أدهُرًا في يومِهِ
فيزيدُ ديْنُ الدهرِ حتى يستحيلْ
فإذا استحالَ ترى ابن آدم قانعًا من كل شيءٍ بالقليلْ
لا تقبلوا بالقُبحِ يا أهلي مكافأةً على الصبرِ الجميلْ!
هنا لم يصِل الأمرُ بعد إلى استنكار الأمل عمومًا. إنما الهاجس هو تراكم الآمال العريضة على قوائم الانتظار دون أن يتحقق منها شيءٌ يذكر. فتتحول إلى دينٍ ثقيل يحني هامة صاحبها، حتى يضيق بحملها ذرعًا، فيطرحُها أرضًا، ويتمكن منه اليأس، فيرضى بأقل القليل مما كان يرجوه. ولذا جاءت الجملة الأخيرة في المقطع في محلها لتهز القانطين، وتذكرهم بأن ما بُذِلَ على مذبح الأمل من قرابين الدم والصبر الغالية، يستحق إكرامه بالمزيد من الأمل والصبر حتى نصل إلى الخلاص الذي يليق.
فالصبرُ طولَ العمر خيرٌ من خلاصٍ كاذبٍ..
ما فيهِ من صفةِ الخلاصِ سوى اسمِه!
والتخلص من عبء الأمل ومسؤولياته مطلقًا، أراه تحت بند الخلاص الكاذب. إذ لا مفر من أن نأخذ الآمال بقوة لنصل إلى خلاصنا اللائق، على ألا نخلو من مرونة ماهرة للانحناء تحت وطأة عواصف الواقع. فنُرشّد الآمال القريبة، فلا تثخن فينا خيبة الأمل. ولذا فالعنوان الأمثل: فكن قاهر الآمال -وتحقيقها- أو كن قتيلها!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.