شعار قسم مدونات

اللّطفُ الصّادق

مدونات - الامتنان
ذاتَ يوم كنت أنتظر أحدًا عند إشارةِ مرور. لم أنتبه متى وقف رجلٌ وامرأة إلى جانبي، ويبدو أنهما لم ينتبها أيضًا متى وقفت بجانبهما، وفي حفلةِ عدم الانتباهِ تلك تشاركنا معًا نفسَ الانتظار. بعد دقائق كثيرة مرّت سيّارة أجرة، فأشار الرجل لها، فتوقّفتْ. كان الغبار شديدًا يومَها، والسماء مصفرّةٌ تشي بالكآبة، فضلًا عن أنها كانت ساعةَ انصراف العمّال، ممّا جعل توقّف تلك السيّارة ضربةَ حظٍّ موفّقة لصاحبيْنا. ومع ذلك، حين لاحظ الرّجل فجأةً أنني أقف قبلَه فيما يشكّل طّابورا صغيرا تراجع، ثمّ توجّه نحوي بأدبٍ شديدٍ يرقى للحرَج، وقال بلغةٍ مكسّرة -عرفتُ منها أنّه لم يكن عربيّا- أنّني انتظرتُ أكثرَ منهما، وهذه السيارة من حقّي، ثم اعتذر بلباقةٍ عن تصرّفه السابق.

تسمّرتُ للحظة وأنا أحاول استيعاب ما يجري، فقد كان ذلك آخر ما توقّعتُ حدوثه في ذلك اليوم؛ أن يؤثِرَني شخصٌ لا أعرفُه بسيّارةِ أجرةٍ نادرة بعد أن توقفتْ لأجله هوَ. ابتسمتُ، قلتُ دون أن يغادرني ذهولي وكأنّ صوتي يجيءُ من مكان بعيد: "لا مشكلة، يمكنك أخذها"، لكنّه ردّ بابتسامة أكبر، وألحّ عليّ بإصرارٍ وهو يكرّر معتذرا: "لا، لا"، حتى قلتُ له أخيرًا أنّني أنتظر من يُقلّني بالفعل، ثمّ شكرتُه بلغته. أومأ الرجل بارتياحٍ بنفس الابتسامة وأشار للمرأة التي برفقته لتتقدّم، ثمّ فتح لها الباب.

أحبّ الأيّام الصّعبة والمستحيلة حين يخترقُ كثافتَها القاتمة عوْنٌ غير متوقّع من شخصٍ غريب، الطّريقةَ التي تعلَقُ بها في الذّاكرة، وكيف تنبسطُ على جدران الأيّام كمدّادٍ أخضر.

تحرّكتِ السيّارةُ الصّفراء من أمامي، وأخذتْ تتقزّم شيئا فشيئا وهي تبتعد، حتّى اختفت كليًا من المشهد. لكنّ راكبها لم يختفِ من ذاكرتي أبدًا. في تلك اللحظة غرّدَ العصفور في رأسي، وظلّ يكرّرُ، يكرّرُ بلا سأمٍ كلامًا كان مركونًا في زاويةٍ ما مِن ذاتِ الرأس، وهو "دائمًا ما يجعلُ اللطفُ الصّادقُ عينيَّ تدمعان. دائمًا ما يجعلُ اللطفُ الصّادقُ عينيَّ تدمعان." إلى أن شعرتُ برطوبةٍ مفاجئة في عينيّ. كنتُ قدْ قرّرتُ بعدها أنْ تكون وجهتي القادمة هي اللّطف، فكان الآتي:

كلُّ الأشياء التي أحبّها وتُدمِعُ عيني لها اسم
أحبّ الأيّام الصّعبة والمستحيلة حين يخترقُ كثافتَها القاتمة عوْنٌ غير متوقّع من شخصٍ غريب، الطّريقةَ التي تعلَقُ بها في الذّاكرة، وكيف تنبسطُ على جدران الأيّام كمدّادٍ أخضر. الأيّام المملّة، تخلو على رتابتها من الأحداث السيّئة والآلام. الأشياء التي تُكرّرُ نفسها: طعام أمّي، ورائحته. يا إلهي، لن يكونَ طعامَ أمّي إن لم يكرّر نفسَه! قهوة الصّباح حين أكون بمفردي. قهوة المساء حين لا أكون بمفردي، ربّما مع العائلة حين تجتمع بعد يومِ دوامٍ طويل. القهوة بشكلٍ عام. هل تراني أكره الشّاي لأنّني أحبّ القهوة كما حزَّبَتْنا تلك الشّائعة السّخيفة؟ قطعا لا، الشّاي أيضًا أحبّه. أحبُّ أن أتشاركه مع ذوي الأمزجةِ الرائقة في المساحاتِ الواسعة، ذات الأسقف المرتفعة، تملأ قلبَك رحابةً وفسحة. في المساحات الضيّقة؛ دافئة وحنونة. مع جلَبَة الصّغار وكلامهم الرّخو، أو مع الهدوء الذي يخلّفه غيابُهم.

بالحديث عن الصّغار؛ هل لاحظتم كيف ينتحون دوما باتّجاه النّوافذ؟ نوافذ المنازل مثلا، يدلدلون أرجلهم الصّغيرةَ من أُطُرِها الحديديّة بشكلٍ طريف. جذوعهم التي تشرَئبُّ نحو الخارج من وراء نوافذ السّياراتِ نصفِ المغلقة، أعينهم المفتوحة بتركيز شديدٍ تحدّقُ بمشهد الشّارع المتكرّر وكأنه يُعرض لأوّل مرّة، وكيف يشعرون بالإحراج حين يدركون أنّك أمسكتَ بهم. إنّهم مضحكون، وأحبّ ذلك جدًا..

كتب البي دي اف، ورافعوها. النظّارات الطبّية. نظّارتي الطبّية على وجه الخصوص؛ لا أتخيّل كيف سيكون العالم مشوّشًا من غيرِها. الطّوابق العلويّة. إطلالات الطّوابق العلويّة، تحديدا مع من نحبّ. هل يتذكّرون حين عبَرَنا ذلك النّسيم؟ إنّه الارتياح. العمل؛ حين تعودُ منه مُسرْنَمًا خائرَ القوى. تناسق الألوان. الشوكولاته. الّذين يقدّمون الشوكولاته للآخرين. تنهيدةُ المتعب بعد الفَرَج. شجرة التّين القديمة في منزل جدّي. الطّريقة التي تدور بها أعين الأصدقاء حين يرون بعضهم صدفةً في مكانٍ غريب.

الأرواح الخفيفة كقطرة ندى، تجعلُ عالمَك المضطّرب مستقرّا وخفيفًا، تمامًا مثلها. الهوايات. التّحضّر. الّذين يتصرّفون بالشّكل الذي يعتقدونه صحيحا بغضّ النّظر عمّا يسمعونه.

السيّدات اللّواتي يحترمْنَ سنّهُنّ. أيّ أحد يشكّل له الاحترام قيمةً عُليا. الجُمَل المتماسكة. الّذين يفشلون في الكلام فتنقذُهم الكاريزما. غابة الأشجار الممتدّة على طول الطّريق المؤدّي إلى منزل جدّي، والّذين لا أعرفهم ممّن يفترشون ظلّ تلك الأشجار بعشوائيّةٍ مبهجة في أيّام العُطَل. الزُّرقة المائلة إلى البياض وهي تغلّف وجه الكون بُعيْدَ الفجر.

الأرواح الخفيفة كقطرة ندى، تجعلُ عالمَك المضطّرب مستقرّا وخفيفًا، تمامًا مثلها. الهوايات. التّحضّر. الّذين يتصرّفون بالشّكل الذي يعتقدونه صحيحا بغضّ النّظر عمّا يسمعونه. الشّتاء. لياليَّ الطويلة فيه. الغيوم. روايات الحبّ. الخطّ الجميل. العيون التي تنكفئُ على نفسها كالمَدّة حين تضحك. الذين يقولون عُرَبًا غريبة حين يَضحكون، فيُدخِلون الجميع في موجةٍ عارمةٍ من الضّحك. الشِّعر. الشِّعر المُغنّى. النّوم العميق. الأحلام الضّبابيّة خلال النّوم. أماكن اللّعب المخصّصة للأطفال. الاحتمالات، قد تكونُ وقد لا تفعل، لكنّها تعلّمنا الصّبر وتشكّل حين نتجاوزُ عدمَ حدوثِها انتصارات مُرضيةٍ لنا.

الحيرةُ التي تأكلني خوفًا من تفويتِ شيءٍ واحدٍ أحبُه، فتجعلني غيرَ قادرةٍ على إنهاءِ ما بدأتُه حين قرّرتُ أن أكتب هذا الكلام. لا يهمّ أبدًا، فمهما أحاول الحصرَ هناك دومًا المزيدُ من الأشياء التي أحبّها. والحسرة التي أشعرُ بمرارتِها الآن في فمي كيْما تُخبِرَني أنّه –كما في الحياة- لا بدّ من تفويت بعض الأشياء التي نحبّها دون أن نعبّر لها عن امتناننا الشديد مهما كانت لطيفة وصادقة..
 
هل يكفيها أنْ تشعر بعظَمَة الإحساس الذي يطوّقُنا نحوها إلى الأبد؟ ماذا عن غلالةِ السّكينة والاطمئنان التي تحطُّ علينا حين نبدأ بعدّها فنجد أنّها كثيرة، كثيرةٌ جدًا على قلبٍ صغيرٍ واحدٍ ليُحبَّها كما يجب..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.