شعار قسم مدونات

لماذا نفشل دائما في الجهاد؟

sword
قبل أن أكمل ما بدأته في المقال السابق في نقد استراتيجيات السلفية الجهادية، كان لابد من البدء بمقدمة مختصرة عن الحالة التاريخية التي بدأ فيها جهاد الأمة يضعف بصفة عامة شاملة في مقابل الأمم الأخرى. هذا الضعف الذي لا دخل للسلفية أو أي طائفة فكرية أخرى فيه؟
 
قد يبدو عنوان هذا المقال صادماً للبعض وبديهياً للبعض الآخر، إلا أنه لا يمكن لأحد إنكار أن أمتنا تعاني – منذ مائتي سنة على الأقل – من خلل عميق في حماية نفسها من العدو الغازي.

لم يحدث من قبل أن تم مثل هذا الاختراق الشامل لجميع أقطار الأمة بهذا الشكل الوقح حتى باتت كلها – من أقصى الشرق في الهند حتى أقصى المغرب في موريتانيا مروراً بتركيا وإيران- تحت السيطرة المباشرة للقوى الأوروبية المتنازعة مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا فيما عُرف بالفترة الكولونيالية.

نتج هذا عن فشل ذريع في وسائل الأمة الجهادية، سواء الحكومية منها أو الشعبية في أقطار الأمة كلها، هذا الفشل الذي ظل مواكباً لجميع محاولات الأمة للخروج من هذه السيطرة البغيضة، كان البذرة الأولى لجميع الإخفاقات اللاحقة المتتالية للجهاد في الأغلبية العظمى من تجلياته. أدى هذا الإخفاق الجهادي بدوره إلى هيمنة غربية متجذرة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، لم تكن لتحدث بهذه الصورة الفظة لولا فشل الجهاد. لذا كان لا بد لنا أن نسأل: ما الذي أدى بالأمة إلى هذه الحالة المزرية؟

(1)
لماذا أصلاً نحكم على التجارب الجهادية للأمة في القرنين الأخيرين بالفشل؟ أليس الواجب علينا هو الجهاد، أما النصر فهو من عند الله ولا دخل لنا فيه؟ والجواب هو بسؤال آخر: لماذا إذاً أمرنا الله بإعداد القوة اللازمة لإرهاب العدو القريب والبعيد؟ ولاحظ هنا أن الله أمرنا أن نُعد من القوة ما (نُرهب) به عدونا وليس ما يمَكِننا من قتاله فحسب. وهذه والله إشارة ربانية عظيمة في فن الجهاد لمن فقه، فأنت إذا أعددت من القوة ما تُرهب به عدوك لم تعد مضطراً لقتاله أصلاً، لأنه يعلم أن أي محاولة لاستفزازك ستؤدي إلى خسارته غالباً.

ظهرت أعمال مثل عن الحرب لكلاوزفيتز الألماني 1831 م وفن الحرب لجوميني الفرنسي 1869 م، محاولة تأطير هذا الفن ووضعه على شكل نظريات، مستفيدة في ذلك من التجارب الهائلة للحروب النابوليونية وما قبلها.

وبما أن أعداء الأمة لم يرهبوها، بل غزوها ودخلوا عليها من أقطارها وسيطروا على مقدراتها وثرواتها وما زالوا يسيطرون، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم أننا نجحنا في الجهاد. وهذا بالطبع لا يعني نجاح بعض التجارب المتفرقة ولا يعني أيضاً التقليل من قدر تلك التي لم تنجح خاصة إذا لم ينتج هذا الفشل عن تقصير مثل تجربة الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب والشيخ عمر المختار في ليبيا.

(2)
إن أي علم أو فن لا يُثقل أو يتطور عند أمة ما، إلا بتضافر عوامل ثلاثة. التجربة العملية الغنية والعلم النظري المفسر لنتائج هذه التجربة والحرية في نشر هذا الفن وتداوله، الموصلة إلى الإبداع فيه. على هذه الثلاثة يتغذى أي علم أو فن ويتطور ويزدهر.

ازدهر (فن الحرب) في أوروبا منذ أواخر القرن الخامس عشر لتوافر هذه العوامل الثلاثة بشكل كبير. فتنافسهم الدائم وحروبهم الطويلة ضد بعضهم – كحرب الثلاثين عام والحروب النابولويونية – وفرت لهم التجربة العملية الغنية جداً في الحرب والقتال وأساليبه واستراتيجياته. كذلك دعت هذه المنافسة إلى إنشاء الأكاديميات العسكرية المتخصصة لأبناء النبلاء ومن توفر لهم الحظ من أبناء العامة ليدرسوا فيها فنون الحرب وعلومها مثل (الأكاديمية العسكرية الملكية) التي أنشئت في بريطانيا سنة 1720 م ونظيرتها الفرنسية التي أنشئت في 1751 م، وهي الأكاديميات التي أخرجت قادة مثل (نيلسون) و(نابوليون).

أدى هذا إلى بروز حاجة إلى دراسات نظرية تُفسر وتشرح نتائج هذه الحروب والمعارك لتكون نبراساً يستفيد منه العامة ويدرسه الطلاب العسكريون ويطبقه الملوك والحكام. ويُعد كتاب (فن الحرب) لميكيافيللي (1527 م) من أوائل الأعمال التي تناولت هذا الفن بصورة متخصصة وهو ما زال يُدرس حتى يومنا هذا. كذلك ظهرت أعمال مثل (عن الحرب) لكلاوزفيتز الألماني (1831 م) و(فن الحرب) لجوميني الفرنسي (1869 م) محاولة تأطير هذا الفن ووضعه على شكل نظريات، مستفيدة في ذلك من التجارب الهائلة للحروب النابوليونية وما قبلها. وقد حظي هذين الكتابين بقبول وانتشار واسعين في أوروبا والولايات المتحدة حتى أصبحا دُرة العلوم العسكرية والاستراتيجية لقرنين من الزمان وحتى يومنا هذا.

وأما العامل الثالث وهو (الحرية) في إنتاج وانتشار هذه الدراسات وغيرها، فقد كان مكفولاً بقوة، نظراً للحرية الفكرية التي تمتع بها أغلب سكان أوروبا وأمريكا في وقت مبكر. وقد ساعد على هذا تطور الطباعة وسهولة تداول الأخبار والمعلومات.

عزوف عامة الأمة عن دراسة الشؤون العسكرية وقصرها المتعمد على العسكريين التابعين للدولة. الأمر الذي أسهم في ضعف قدرة القوى الشعبية على مقاومة الاحتلال الأجنبي.

(3)
أما على الجانب الآخر، فإن (فن الحرب) عند المسلمين لم يتطور بهذه السرعة والكفاءة. فإذا أردنا تحليل عوامل ازدهار أي علم أو فن فإننا نجد أن العامل الأول وهو (التجربة العملية الغنية) قد توفر بقوة. فكل من الدولة العثمانية والصفوية والمغولية (الإمبراطوريات الإسلامية في ذلك الوقت) كانت تخوض حروباً كثيرة ومتنوعة. كان ذلك في قتال العدو الخارجي (مثل الحروب العثمانية في أوروبا) أو في الاقتتال الداخلي (مثل الحروب العثمانية الصفوية).

بيد أن هذه الخبرة العملية الكبيرة لم يتم تأطيرها مبكراً في صورة دراسات نظرية تحليلية يمكن الاستفادة منها مستقبلاً (العامل الثاني)، اللهم إلا بعض الأعمال النادرة مثل كتاب (البحرية) لبرى رئيس. أدى هذا إلى الحاجة الدائمة للخبراء العسكريين الأوروبيين إذا ما أراد الخليفة أو السلطان تحديث جيشه، مما أدى بدوره إلى فساد كبير في العقيدة القتالية للضباط والجنود حتى اختفت عندهم تدريجياً القيم الإسلامية العظيمة للحرب والجهاد. أيضاً تأخر إنشاء أكاديميات عسكرية متخصصة في الدولة العثمانية إلى سنة 1834 م، أي متأخرة عن نظيراتها الأوروبية بمائة سنة تقريباً.

أما بالنسبة للعامل الثالث (الحرية في إنتاج العلم وتداوله) فقد أدى التخلف في صناعة الطباعة (حيث تم تحريمها في بادئ الأمر) إلى تخلف في عملية إنتاج وتداول المعرفة بشكل عام. أضف إلى ذلك عزوف عامة الأمة عن دراسة الشؤون العسكرية وقصرها المتعمد على العسكريين التابعين للدولة. الأمر الذي أسهم في ضعف قدرة القوى الشعبية على مقاومة الاحتلال الأجنبي فيما بعد.

كان هذا عرضاً موجزاً لبعض أسباب تخلف المسلمين في (فن الحرب) والجهاد وازدهار هذا الفن عند الأوروبيين. وقد خلصنا إلى أن التجارب العسكرية عن الأوروبيين تم تأطيرها ونقلها بنجاح، الأمر الذي فشل فيه المسلمون، وللحديث بقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.