شعار قسم مدونات

مَتَاعُ الغُرور

blogs رجل كبير

كنتُ أتجول بين صفحات التواصل الاجتماعي، وإذا بي أقف عند صورة هزَّتْ كَياني، وأحسستُ وأنا أُحَملِقُ إليها بتأثّر بالغٍ وقُشعريرة في جسمي جعلتني أقفُ عندها فترةً من الزّمن لا أملكُ سوى أن أُواصلَ التأمّل فيها شاردَ الذّهن، بل وأعودُ إليها من حينٍ لآخر سواءٌ على هاتفي المحمول أو حاسوبي الخاص، ودعُوني أصفُ لكم الصورة حتى لا أُثير فُضولَكم أكثر. 

الصورةُ بسيطةٌ في تركيبها، لا تُذهبُ العقلَ من فَرْط جَمالِها أو تُسحرُ العيْنَ بمناظِرها، لكنَّ معانيها ودلالاتها تَقتحمُ الحقيقيةَ من أبواب عدة، وتحيلُ الحياةَ إلى عُمقِ أسرارها وأَصْلِ طبيعتها التي طالما ننساها أو بالأحرى نتناساها. رجلٌ طاعنٌ في السن، يبدو أنه تخطى عتبةَ التسعين، إذ أصبحَ من الصّعب عليه أن يُواجه الحياةَ بوُقوفها وجُلوسها فاستسلمَ أخيراً للرُّقود، وكأنَّ عضلات جِسمهِ الهزيل قد أعلنتْ الاعتزالَ ونهايةَ الخدمة، ولم يَعُدْ يقوى على مُتطلّبات الحياة الصعبة. ومع تقدّم عُمره خارتْ قِواه، وأمسى لا يُشير إلى الأشياء من حوله إلا بمُقلة عينيْه الغائرتين بعد أن حالَ بينهُ وبينها خُذلان الصحة ونُكران الزمن.
 

نحنُ عابرون والدنيا لن تدوم لنَا، بل سنمضي بهدوءٍ تاركينَ كل شيء خلفنَا، ستبكي علينا العُيون يوماً، وستنسانا العقولُ دوماً، ولن تتذكّرنا سوى القلوبُ الجميلة كذكرى مرّتْ من هنا في يومٍ من الأيام

بالقربِ من عجوزِنا هذا تنتصبُ على الحائطِ الملاصِق لسريره لوحةٌ وقد عُلّقتْ عليها بذلتهُ العسكرية، ما زالتْ تُحافظ على نقاءِها وأناقتِها إلى اليوم، تتوزع فوقَها العديدُ من الأوسمة الذهبية والفضية البرّاقة من كل شكلٍ ولون، شاهدة على أمجادِ ماضٍ حافلٍ بالعطاء، يتطلّعُ إليها بعينينِ ذابلتين مُلأتا حزنا ودمعَا، يمدُّ إليها أطرافَ أصابعه بمشقّة دون أن تفارق رأسُه المخدة، ليُلامسَ ما تبقى من تاريخه الذي طُوِيَ بين دفّتيْ كتابٍ طالهُ النّسيان، وغطّاه الغبار، واختفتْ بين سُطوره أيّامُ الشباب والأحلام، رغم أن قلبَهُ ما زال يحيا بالخَفَقان لكنه خفقانُ قلبٍ مُقبلٍ على الرّحيل، عقودٌ متراكمةٌ من التضحية في ساحات الوغى، قادَ معاركَ طاحنة برباطة جأشٍ وصلابةِ قلبٍ ليس لهما مثيل، كان جبلاً شامخاً لا يعرف التّعبَ ولا الرّضوخ، تنتصبُ له القاماتُ الشاهقة بالتحية والانحناء لشخصِهِ المهيب، واليومَ تساقطتْ جلاميدُهُ صخرةً صخرة إلى أن توارتْ قمّتُه عن الأنظار.

ذهبَ كل شيء، ذهبت المناصبُ والنياشينُ باختلاف درجاتها ورُتبها، ولم يعُدُ أحدٌ يأبه لغياب صاحبنا أو حضوره، وربما اعتبروهُ ميّتا قبلَ الأوان، لم تعدْ هذه الأوسمة الجذابة المعلقة أمامَهُ سوى ذكرى يختزلُهَا الزمنُ في كلمة أو كلمتين وربما لن يذكرها قطّ، انتهتْ مدة صلاحيتها وانزوت جانبا، وأصبحَ صاحبها في عِداد المتوفين العاجزين عن فعلِ أي شيء حتى عن إماطةِ ذُبابة من على وجهه، فكيف يقودُ اليوم جيوشا ويخوضُ معاركا وهي مرصعة على كتفيه كما في الماضي.
 

ما نحن إلا ضيوفا، وما أسماؤُنا وألقابُنا ومناصبُنا إلا حروفاً من هواء، سنمضي.. لابد أن يحين يوم السفر، يومٌ لن نحملَ فيه لا حقائبَ ولا معدات ولا بطائق هويةٍ ولا جوازات

هذه الصورة أبلغُ ما تُعبّر به عن تفاهة الحياة التي نعيشها، فهي لا تُساوي مثقالَ حبّة من خردل، وليستْ سوى مسرحية متسارعة المَشاهدِ تُلهينا فترةً من الزّمن، إلى حينِ انتهاءِ فُصولها وإعلان انجلاءِ الستار. 

فنحنُ عابرون والدنيا لن تدوم لنَا، بل سنمضي بهدوءٍ تاركينَ كل شيء خلفنَا، ستبكي علينا العُيون يوماً، وستنسانا العقولُ دوماً، ولن تتذكّرنا سوى القلوبُ الجميلة كذكرى مرّتْ من هنا في يومٍ من الأيام، ما نحن إلا ضيوفا، وما أسماؤُنا وألقابُنا ومناصبُنا إلا حروفاً من هواء، سنمضي.. لابد أن يحين يوم السفر، يومٌ لن نحملَ فيه لا حقائبَ ولا معدات ولا بطائق هويةٍ ولا جوازات، فعالمُنا هذا حقيرٌ يعترفُ بهذه الترّهات، لن تُفتَّشَ حقائبُنا ولا جيوبُنا ولنْ يُودّعَنا الأحبّةُ على أملِ اللقاء، أو نُهاتفَهُم ببُشرى العودةِ ونَعدَهم بكثرة الهدايا والمُفاجآت، بل هو سفرٌ بلا عودة ورَحيلٌ بلا إخبار. "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ".. صدق الله العظيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.