شعار قسم مدونات

الصيام وفلسفة التغيير

مدونات - الصوم
العادة هي المكوِّن الجذري لسلوك الإنسان فهي من يحدد طبيعة واقعة ويرسم ملامح مستقبله فالعادة هي ما يكرره الإنسان ويداوم عليه، وهي عند علماء النفس أنماط معتادة ومكتسبة متكررة للفرد تحدث ما قبل الشعور دون تحليل ذاتي، فالعادة لا يقَصدها الإنسان ولا يشعر باللحظة التي يصبح فيها الفعل عادة، فهي لا شعورية ولا تخضع للتحليل والتساؤل الذاتي قبل فعلها، وهذا بدورة يجعل الكثير من أفعال الإنسان تتسم بصفة العادة اللاواعية التي يتم فيها تقليد الآخرين أكثر من كونها قناعة مدروسة.

تنشأ العادة في أولى خطواتها كقرار يتم اتخاذه وفق مجموعه من المعطيات والمراحل تبدأ أولا بمرحلة المعرفة ثم الرغبة ثم المهارة فمرحلة المعرفة تتكون فيها الجوانب العلمية والمعرفية للفعل فيتعرف الإنسان على مدى الاحتياج والدافعية ومرحلة الرغبة تتكون عند بروز الجانب الجمالي الجذاب للشيء ومرحلة المهارة تتكون بعد عملية التكرار والممارسة وفيها تزول العقبات وصولا إلى مهارة الأداء.

الروح مادتها العقل والفكر وما يتعلق به من البحث والتأمل، ولطالما كانت الشهوات والغرائز الإنسانية عائقا أمام استقلال العقل في اتخاذ القرار.

مع هذه المراحل الثلاث تتكون العادة عند أي إنسان وطبيعة هذه المراحل هو ما يحدد مسار العادة بين الإيجاب والسلب، فمرحلة المعرفة يمكن ان تتداخل معها الكثير من العوامل ينتج عنها تحريف نتائج المعرفة، وهنا يحدث القرار غير الصائب فالمعلومة الخاطئة والمنطق غير المنضبط ودخول العوامل الوجدانية واستحضار المواقف الجانبية من غضب ورضا وحب وكره وتعصب وعنصريه وانتماءات ونحوه لها تأثيرها في توجيه واستقلالية الحكم وبالتالي يتأثر القرار بالإقدام أو الترك أو الحب أو الكره وكل ذلك مرهون بمدى موضوعية اكتساب المعرفة وتجردها للحقيقة وهي المنطلق الأول لبناء العادة.

كما أن مرحلة بناء الرغبة يمكن أن يتسم كثيرا بالتضليل من خلال إبراز الصورة الإيجابية وتجاهل الجوانب السلبية لخلق رغبة مزيفة غير متوازنة، فعند الإغراق في جانب عاطفي تُبنى القناعات والقرارات بناء على تصور منحاز وقاصر. وهذا هو جوهر اكتساب العادات الشخصية بشقيها الإيجابي والسلبي فالعادة ما هي إلا قرار لفعل أو قول بناء على رؤيه وتصور منفعي يتم بعد ذلك بناء الإطار الجمالي الجاذب لهذا الفعل وتكراره مع زوال كل المعوقات التي تواجه هذا الفعل والوصول به إلى حد المهارة والعادة الإيجابية أو السلبية يتوقف مسارها بحسب المعرفة والوعي والتوازن في الجانب الوجداني.

وهنا يبرز التساؤل ما دور الصيام في هذه العملية؟! ينظر الإسلام إلى عبادة الصيام بأنها عملية تدريب على التغيير الجذري ابتداء من وضع أسس بناء القرار الصائب وذلك عن طريق تحقيق الموضوعية ليسهل اتخاذ القرار الصحيح بحياد وتجرد تام للحقيقة فالإنسان مكَّون من مادة وروح (جسد وروح) فالجسد مادته الطعام والشراب وما يتعلق بها من غرائز، والروح مادتها العقل والفكر وما يتعلق به من البحث والتأمل، ولطالما كانت الشهوات والغرائز الإنسانية عائقا أمام استقلال العقل في اتخاذ القرار الصحيح والتي تتحول بعد ذلك إلى عادات تشكل ملامح حياة وسلوكيات أي شخص منا.

التغيير عندما يأتي من الخارج تبقى النفس متعلقة به مرهونة بحصوله بينما عندما يتاح للنفس أن تصنع هذا التغيير بنفسها وبجهدها فإن قدرتها على الإرتقاء تكون أعظم.

لذلك الإنسان بحاجة إلى أن يتدرب على مقاومة جنوح الشهوات ودوافع الغريزة وتأثير الصراعات الإنسانية والجوانب الوجدانية والعاطفية على قراراته، وبنفس الوقت يحتاج أن يعطي المجال للعقل والتأمل والنظر المتجرد أن يتحرر عن أي عوامل دخيله تُغير مسار حكمه على الأشياء وهذه العملية لها الدور الأكبر في تحقيق الموضوعية المنشودة ليكون الإنسان مسؤولا مسؤولية تامة عن أي قرار بعد ذلك.

والصيام بمقوماته الصحيحة يقوم بعملية إضعاف الجانب الغرائزي المادية في الإنسان من خلال إضعاف مادته الأساسية وفي نفس الوقت يغذي الجانب الروحي في الإنسان، وهذا بدورة يُسهم في عملية رفع مستوى العقل والتأمل وهنا تُعطى الفرصة والمجال للعقل ليتأمل في كل ما يقرر بأكبر قدر ممكن من الحياد لتتحول الكثير من قراراته إلى قناعات تصنع أول مراحل العادة الحسنة القائمة على التأمل والبحث والفهم العميق، لذلك لم تكن الغاية من الصيام مجرد الامتناع عن الأكل والشرب بل ما يترتب على ذلك الامتناع من تحصيل التقوى بمفهومها الشامل ففي الحديث (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في ان يدع طعامه وشرابه).

وهذا الدور الذي يقوم به الصيام قد يظن البعض أنه أمر هين، والحقيقة أن واحدة من أعظم آفات العقل الإنساني هي الوقوع في اللاموضوعية ولو تأملنا في أنفسنا والأحداث من حولنا سنجد أن أغلب قراراتنا وعاداتنا تتحكم فيها العديد من القضايا الجانبية التي يتم إقحامها بشكل غير موضوعي فنحكم على الموقف بالترك أو الفعل أو غيره بناء على تصور خارج عن دائرة موضوعيه الفعل سنجد كم يشكل هذا الأمر من منعطفات خطيرة في الأحداث.

يذكر ابن كثير في البداية والنهاية في قصة الأخنس بن شريق قال: أقبل علي أبو جهل فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق – يقصد محمد رسول الله – ولكن يمنعني شيء إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة فقلنا: نعم ثم قالوا: فينا السقاية فقلنا: نعم ثم قالوا: فينا الندوة فقلنا: نعم ثم قالوا: فينا اللواء فقلنا: نعم ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل "وقال تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

الصيام بمقوماته الصحيحة يقوم بعملية إضعاف الجانب الغرائزي المادية في الإنسان من خلال إضعاف مادته الأساسية وفي نفس الوقت يغذي الجانب الروحي في الإنسان.

لقد حرص القران على تربية الصحابة على الموضوعية والتجرد في الحكم دون استدعاء الخصومات أو النزاعات الأخرى مهما كانت فقال تعالى ( يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وضرب القرآن مثلا للموضوعية والتجرد في الحكم بشكل عملي فقال تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يعلمون).

إن التربية التي يصنعها الصيام في الأمة هي أعمق مما نتصور من مجرد الشعور بالمحتاجين أو ترويض النفس على الترك، فالصيام تربية عميقه للنفس في تحقيق مبدأ التكريم الإلهي للإنسان فالله قادر على أن يبعث إلينا معجزة لتغير ما بنا ولكنه جعل التغيير من أنفسنا بأنفسنا قانونا وسنة كونية.

فالتغيير عندما يأتي من الخارج تبقى النفس متعلقة به مرهونة بحصوله بينما عندما يتاح للنفس أن تصنع هذا التغيير بنفسها وبجهدها فإن قدرتها على الإرتقاء تكون أعظم، لذلك أراد الله منا أن نتغير بأنفسنا (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) ذلك التغيير الذي يصوغ الإنسان ملامحه حسب تراكمه المعرفي لينتفع به جيلا وهذه هي رسالة الصيام العميقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.