شعار قسم مدونات

لا تصنع حياة فارغة

blogs - رجل مسن

تستيقظ كل صباح بعد عناد شديد…عبوسا يؤوسا فاقدا للأمل، تبدأ يومك بالتذمر وإلقاء اللوم على حظك السيء، على المجتمع، على العالم والأشخاص المحيطين بك، تبحث عن الهفوات والثغرات في كل شيء كي تفرغ غضبك عليه، تنتظر أصغر الأخطاء من زوجتك لتذكرها بأنها لا تصلح لشيء، تتجه أخيرا نحو عمل روتيني لا تحبه، يترأسك فيه مدير تافه غبي متسلط لم تتجرأ يوما على النظر في وجهه، ولن تستطيع ذلك بسبب إكراهات تكبلك وتسيطر على حياتك، لأنك اخترت لنفسك هذا السجن كي لا تخرج عن منطقة راحتك.

تصل إلى الخمسين من عمرك، تنظر لما حققته من انجازات وتضحيات، فلا تكاد تجد سوى أكل وشرب ونوم وعمل كنت وربما مازلت تكرره، كآلة لا تصلح لشيء غير تنفيذ تعليمات لا تستطيع مناقشتها، وتنتهي صلاحيتها بانتهاء وظيفتها.

أتساءل دائما عن ما يجعل أشخاصا يرتقون ويبلغون أسمى أوجه التألق والنجاح، ويجعل آخرين ينجرفون أكثر نحو القاع مع كل يوم آخر يعيشونه، أتساءل كيف استطاعت تلك الأرواح إعطاء الكثير للإنسانية، وكيف تحملت أجسادهم كل ذلك الثقل والمسؤولية.

تبحث كثيرا في خزائن ذاكرتك عن شيء مفيد أفنيت سنوات عمرك في بناءه، عن شخص كنت السبب في سعادته وتغيير مسار حياته، أو عن أثر طيب تركته بنفس أحدهم، لعلك تواسي به حزنك وفشلك الذريع، لكن، للأسف، ومن جديد، لا تواجه سوى حياة فارغة لعبت فيها دور المستهلك بامتياز، أو بعض مشاكل تافهة قضيت أوقاتا ثمينة في التفكير بحل لها، وتائها بين قيل وقال لم يكن هناك بد منهما.
 

لم تقدم أبدا شيئا نافعا للعالم، ولم تضف حرفا واحدا في كتاب انجازات البشرية، غير أبناء ربما ليسوا سوى نسخة منك، سممتهم بنفس أفكارك ونظرتك التشاؤمية للحياة، وساعدتهم على دفن قدراتهم بدل الإيمان بها، بل وساهمت بوضع حد لأحلامهم البريئة، كأن الواقع المرير لم يكف لذلك. كيف لهم أن يكونوا على غير هذا الشكل، وهم يصنعون منك المثال والقدوة، باعتبارك أقرب شخص إليهم؟

نعم، أتفق معك على أن الحياة أقسى مما تعتقده شابة في الثامنة عشر من عمرها، وضمان لقمة العيش أصعب مما تتوقع، لكن على قدر معرفتي بذلك، على قدر إيماني الجازم بأن الإنسان هو المسؤول الأول عن الوضع الذي يعيشه، بغض النظر عن المؤثرات الخارجية والظروف التي تعرقله أو تساعده في صنع حياته.
 

أتساءل دائما عن ما يجعل أشخاصا يرتقون ويبلغون أسمى أوجه التألق والنجاح، ويجعل آخرين ينجرفون أكثر نحو القاع مع كل يوم آخر يعيشونه، أتساءل لم معظم من تركوا بصماتهم في مختلف المجالات، وأسسوا أعمالا حرة بتفان وإبداع ولدوا من رحم المعاناة وذاقوا الأمرين؛ أتساءل كيف استطاعت تلك الأرواح إعطاء الكثير للإنسانية، وكيف تحملت أجسادهم كل ذلك الثقل والمسؤولية.

ربما لو عدت لعشرينيات عمرك، ما كنت لتختار نفس الحياة ولا العمل ولا الأصدقاء، وكنت لتبدع بشيء تحبه أو تدرس تخصصا تبرع فيه لترضي نفسك لا والديك والمجتمع، وما كنت لتُقبل على الزواج دون أن تكون جاهزا نفسيا وأخلاقيا، ومستعدا لتكون أبا وزوجا صالحا قادرا على تحمل مسؤولية بناء أسرة، وإنشاء أفراد صالحين يعودون على المجتمع وأنفسهم بالنفع.

قلبك أصابته الشيخوخة المبكرة، وفقد وظيفته المعنوية، حيث لم يعد سوى محرك يضخ الدم في جسد ضعيف واهن، يعد الساعات والأيام المتشابهة، ليعانق الأرض.. ليلحق بروحه التي ودعته منذ زمن، ويدفن في مقبرة التاريخ.

الخطأ أننا نقوم بالكثير من الأشياء دون أن نعرف لماذا، نتخذ القرارات دون سابق دراسة أو تخطيط، نشغل مناصب لا نستحقها ولسنا أهلا لها دون التفكير في وقع ذلك على أنفسنا والمجتمع، يذهب الطفل إلى المدرسة دون أن يعرف لماذا، فقط لأن جميع أقرانه يدرسون؛ نذهب للجامعة فقط لأن من يحصل على شهادة البكالوريا يفعل ذلك، نتزوج لأن الجميع يتزوج، نعيش دون أن نحدث تغييرا ايجابيا بما وجدناه، ونموت دون أن نترك أثرا، نسلم كل شيء للقدر ظنا منا أن الله أعفانا من التدخل به، وننسى أنه أمرنا بالجد والكد وأننا المسؤولون عن مصيرنا وعن المسار الذي تتخذه حياتنا.

تفكر مليا، فلا تجد دافعا للاستمرار في الحياة، بل وتكتشف أنك ميت منذ زمن، واتخذت من رائحة الموت عطرا لا يفارق روحك المتعبة التي تترك أثرا بئيسا بكل مكان تطأه قدماك. قلبك أصابته الشيخوخة المبكرة، وفقد وظيفته المعنوية، حيث لم يعد سوى محرك يضخ الدم في جسد ضعيف واهن، يعد الساعات والأيام المتشابهة، ليعانق الأرض.. ليلحق بروحه التي ودعته منذ زمن، ويدفن في مقبرة التاريخ.

قل إني أهدرت سنوات عمري سدا، ولا تقل يا ليت الشباب يعود يوما، لأن الشباب لا ينتهي أبدا عند المبدعين المجددين الحالمين، اللذين لا يكفيهم العمر ليتموا إنجازاتهم، وتبقى أرواحهم فتية ولو غزت التجاعيد أوجههم، وغير الزمن في أجسادهم ما يريد. عشت، أو بالأحرى كنت حيا فقط، ثم ستموت موتا حقيقيا وتنسى كأنك لم تكن.. كأنك لم تكن أبدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.