سجّل أنا أُممي!
في الخطاب المتصهين السائد لا يجوز لك أن تعبّر عن تضامنك مع إخوة لك في الدين أو العرق أو المصير، ما داموا غير منتمين إلى بلدك الذي أقطعتك إياه اتفاقيات سايكس-بيكو. وإذا جاز لك أن تعبّر عن هذا التضامن، فيجب أن تكون حذراً، فثمّة ثقافة "وطنية" شوفينية تأبى عليك الذهاب بعيداً في هذا التعبير، حتى لا تُعدّ ضعيف الصِّلة ببلدك وهمومه، وحتى لا تُحسب على تيّار الإسلاميين الذين لا يرون الحدود التي مزّقت الأمّة حتميّة ومقدّسة، وحتى لا "تُتّهم" بالحنين إلى "بعبع" الخلافة الإسلامية، أو باختصار: حتى لا تُصنّف أُممياً!
سجّل أنا أممي!
الوطنية في الخطاب المتصهين تعني حرفياً أن تكون منغلقاً على البقعة الجغرافية التي أنت فيها، بغضّ النظر عن كون هذه البقعة جزءاً من ديارٍ شاسعة يقطنها بشر بينك وبينهم عُرى لا تنفصم: الدين، المذهب، التاريخ، العِرق، الرّحم، المصير المشترك. بل إنك تجدّف معهم في قارب واحد، لكنّ الوطنية التي يعظونك بها تنأى عنهم وتنظر إليهم بوصفهم أمّة أخرى. حتى الخطاب الديني (الأممي بطبعه) يجب أن يتضاءل وتُعاد صياغته ليصبح مقصوراً على القضايا المحلية و السكّان المحليين، كما ينبغي تهميش النصوص الداعية إلى الاهتمام بالشأن العام للمسلمين: "إنما المؤمنون إخوة"، "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فإخوانكم في الدين"، "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا"، "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد"، "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله"، "المؤمن أخو المؤمن يكفّ عليه ضيعتَه، ويحوطه من ورائه"، "المسلمون يسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم". ويمكن، من أجل التقليل من شأن هذه النصوص، ونزع الشرعية عنها، نسبة دلالاتها إلى ما يُسمّى "جماعات الإسلام السياسي"، وتحديداً "الإخوان المسلمين" بدلاً من تقديمها بوصفها نصوصاً مقدّسة في الكتاب والسنّة. البرنامج التلفزيوني الإماراتي "دهاليز الظلام" قال هذا بالضبط، حيث نبز أحد ضيوفه الإخوان على هذا النحو: "الإخونجي المواطن يرى أنّ الإخونجي الآسيوي أقرب إليه من ابن وطنه غير الإخونجي". الرابطة الإسلامية هي التي تعرّضت للهجوم هنا تحت ستار "الأخونة".
في الخطاب المتصهين لا يجري النيل من الإسلام مباشرة، بل عن طريق وسطاء، وهم في هذه اللحظة التاريخية، الإخوان. هل نسينا الاتهامات التي وُجّهت إلى الرئيس المصري محمد مرسي إبّان فترة حكمه؟ كانت كل الخطوات التصالحية مع الدين والتي حدثت في عهده "أخونة": السماح لمذيعات التلفزيون ومضيفات "مصر للطيران" بارتداء الحجاب، التوسّع في الدروس الدينية بالمساجد، فتح البلاد لاستقبال اللاجئين السوريين والسماح لهم بالتعلّم والعمل، تأسيس فنادق خالية من الخمور، مجرد أمثلة. ويبقى الاهتمام بشأن الأمة هو الشاهد الأكبر على "الأخونة" المزعومة، فالمسلم المسكون بقضايا أمته ليس متّهماً بضعف ولائه الوطني فحسب، بل هو "أممي"، "إخواني"، توّاق إلى خليفة، ولذا فهو معجب بالرئيس التركي، أردوغان، بصفته إسلاميّاً، وكانت بلاده مهد آخر خلافة على الأرض. بل إنّ هذا الرئيس نفسه يتعرّض دائماً للربط بالإخوان والخلافة، حتى أنّ مدير قناة "إخبارية" عربية لم يجد حين التقى به من قضايا مهمّة يطرحها عليه غير أسئلة كثيرة عن موقفه من الإخوان، وهذا السؤال المثير للسخرية: "هل تحلُم بعودة الخلافة"؟
سجّل أنا أممي!
عندما آسى على أهلي في الشام، فأنا أممي. عندما تذرف عيناي على الأحبّة في الموصل، فأنا أممي. عندما أتألّم لما آل إليه الأمر في أرض الكنانة وأطالب بتحقيق العدل هناك، فأنا أممي. عندما يتقطّع قلبي حزناً على إخوتي الروهينغا في ميانمار الذين يتعرضون لحرب إبادة منذ سنوات، وأدعو إلى نجدتهم، فأنا أممي. عندما يخفق قلبي للجار اليمني الجريح، وأتابع بقلق ما يتعرض له من ثالوث الحرب والجوع والمرض، فأنا أممي. سأكون وطنياً فقط حين أغضّ الطرف عن كل ذلك، وأنشغل بالشأن المحلي، وأطوّع حتى خطابي الديني ليخرج بصيغة محلية، فلا أدعو لإخوتي خارج حدود بلدي بالفرج أو النصر، ولا أتماهى معهم، ولا أتقمّص معاناتهم. لو فعلت ذلك، سيُنظر إليّ بعين الرّيبة، وسيُقال مثلاً إنّ أخوالي "من وراء البحار"، أو ربّما جذبني عرق، فلا يُعقل أن أكون وطنياً وأهتمّ في الوقت نفسه بمن لا يحملون جواز وطني. تذكّرت الآن شوقي "الأممي" عندما رثا مدينة أدرنة قائلاً: مقدونيا والمسلمون عشيرةٌ/كيف الخؤولةُ فيكِ والأعمامُ!
سجّل أنا أممي!
في قلبي يسكن وطني بنجده وحجازه، بالحرمين الشريفين على هامته، بيمامته وتهامته، بعبَق التاريخ في بدر وأُحُد، بجبال طويق وأجا وسلمى والسراوات، بجدّة الفاتنة المرتمية على ضفاف الأحمر، بمرتفعات الهدا الساحرة، بأبها البهية، بخليج اللؤلؤ والمحار. كلّ ذلك يُشعرني بالانتماء إلى بلد عظيم، ويملؤني بالولاء له، والاعتزاز بقيادة تاريخية نظَمَتْ صحاريه ومُدُنه، لكنّ ذلك الشعور لا يتناقض أبداً مع اهتمامي بأهل لي وإخوة مسّهم الضرّ في الجوار أو في بقاع نائية. قيَمي الوطنية، كما أفهمها من ثقافتي العربية والإسلامية، تُملي عليّ أن أحبّ لأخي المسلم ما أحبّ لنفسي. لقد آخى النبي (صلى الله عليه وسلم) بين المهاجرين القادمين من مكة، وبين الأنصار من أهل المدينة. كانوا من بقعتين مختلفتين، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا.
في طفولتي، كان أشهر نشيد وطني تبثّه إذاعة الرياض أمميّاً بامتياز: "من سُتّميَة مليون، من كل عشيرة ولون، دوّت صرخة قويّة قويّة، حنّا الأمّة الإسلامية، وحدّنا الله وحّدنا، وكتاب الله وحّدنا، من سُتّميَة مليون، من كل عشيرة ولون".
سجّل أنا أممي!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.