شعار قسم مدونات

لا تجادلني يا أحمق!

blogs - حوار بين اثنين
منذ فترة كنت مع صديق لي نتحدث عن بعض الأمور والمواضيع التافهة تارةً والقيِّمة تارة أخرى، فسمعنا أغنية «سالمة يا سلامة» لداليدا تخرج أنغامها من التلفاز لتتخلل ثنايا الحديث.. انتقل حديثنا إلى حياة داليدا، حتى اختلفنا في شيء عنها، هو شيء ليس مهمًا بالمرة ولكن نتج عنه موقف كان له مغزً وعبرة علقت فى رأسي بعد ذلك.. صديقي كان يقول إن داليدا إيطالية وأنا كنت أقول إنها فرنسية، احتدم النقاش بيننا، وأقسمت له أني قرأت أنها فرنسية منذ فترة على ويكيبيديا، رأينا أن نحتكم إلى ويكيبيديا لنرى من منا على حق، لنكتشف أنها كانت من جذور إيطالية ولكن تتحدث الفرنسية وتمتلك الجنسية الفرنسية، استرجعت ذلك في الحال، وتذكرت أني كنت قد قرأت ذلك بالفعل، تعجبت لهذا الموقف الغريب، كيف كنت أتحدث بثقة مطلقة واقتناع مؤكد أنها فرنسية، ثم أعود إلى مَصدري لأتذكر شيئا آخر؟
 
(1)
كانت «جنيفر تالاريكو»، طالبة الدكتوراه الأمريكية في جامعة «ديوك» في مطبخ شقتها تعدُّ طعام اﻹفطار، حين سمعت عَرَضًا صوت المذيع يأتي من التلفاز في الصالة، يتحدث بانفعال عن طائرة اصطدمت بأحد برجي مركز التجارة العالمي. للحظة لم تستوعب ما الذي يجري، هرعت إلى التلفاز لترى طائرة أخرى تخبَط البرج الثاني.

لمَّا حكت ما حدث فيما بعد، قالت إن شعورًا بالخزي اعتراها لأن عقلها لم يفكر وقتها سوى في الاستفادة علميًّا من كارثة كتلك. يتصرف العلم بقسوة في أغلب الأحيان، يتطلع إلى النتائج ولا يجْبُر خواطر المرهفين. هكذا هرولت «جنيفر» إلى حرم الجامعة والتقت أستاذها «ديفيد روبن»، الذي كرَّس حياته لدراسة «الذكرى المتوهجة». الصدفة البحتة جمعت أعضاء مجلس الجامعة كلهم هناك، وسارت الأمور على ما يرام؛ وافق الجميع على بدء الدراسة فورًا.

عام على أحداث سبتمبر ليس فترة كبيرة، ومَن خضعوا لـ«مشروع مانهاتن» بدوا واثقين للغاية مما حكوه، إلا أن 63 % فقط من التفاصيل كانت صحيحة. عقب 3 سنوات من الهجمات سُئلوا الأسئلة ذاتها، وكانت نسبة دقة الإجابات 57 % فقط.

في اليوم التالي، سأل «ديفيد روبن» و«جنيفر تالاريكو» 54 من طلاب الجامعة العريقة في الولايات المتحدة، عمَّا يتذكرونه من وقائع أمس (يوم الهجمات)، وكذلك عن الأحداث التي يتذكرونها من اليومين السابق والتالي له. بعد أسبوع عادا وسألا الطلاب الأسئلة نفسها، والنتيجة كانت غير متوقعة على الإطلاق، لكننا سنتطرق إليها لاحقًا.

(2)
هجمات 11 سبتمبر:
بالمثل، مجموعة من علماء النفس المهتمين بأبحاث الذاكرة في جامعات أمريكية عدة، منها «هارفارد» و«ييل» و«كولومبيا» و«جورج تاون»، بدأوا «مشروع مانهاتن» فور سقوط البرجين. سجَّل هؤلاء خلال الأيام القليلة التي تلت الأحداث مع ثلاثة آلاف شخص من ولايات نيويورك وواشنطن وبوسطن وكونيتيكت وميزوري وكاليفورنيا، بعضهم كان قريبًا من مركز الأحداث في مانهاتن بجوار برجي التجارة، وآخرون كانوا أبعد قليلًا، لكن جميعهم، ككل الأمريكيين ومعظم سكان العالم، تأثروا إلى حدٍ كبير بما وقع.

المواطنون الخاضعون للدراسة تأثروا بشدة بما حدث. تلك الهجمات الإرهابية اعتُبرت الحدث الأهم في تاريخ جميع الأمريكيين الأحياء وقتها. شيء كهذا ليس من المفترض أن تمحي تفاصيله من الذاكرة أبدًا، وما فعله العلماء أنهم سألوا هؤلاء عمَّا كانوا يفعلونه وقت الحادثة: أين كانوا؟ مَن كان معهم؟ كيف كانت ردود أفعالهم؟ وجمعوا كل البيانات الشافية، كل ما احتفظوا به في ذاكراتهم عن الهجمات، ثم عادوا بعد عام واحد فقط وسألوهم الأسئلة ذاتها.

عام على أحداث سبتمبر ليس فترة كبيرة، ومَن خضعوا لـ«مشروع مانهاتن» بدوا واثقين للغاية مما حكوه للباحثين، إلا أن 63 % فقط من التفاصيل التي رووها كانت صحيحة. عقب ثلاث سنوات من الهجمات سُئلوا الأسئلة ذاتها، وكانت نسبة دقة الإجابات 57 % فقط، لكنها رغم ذلك كانت تُحكى كأشياء لا جدال فيها، إنها الحقيقة التي حدثت للجميع، أو أن هذا لم يكن سوى ما أقنعتهم به عقولهم فحسب.

بعد عام من 11 سبتمبر، نسبة 14 % من المشاركين في التجربة أجابوا خطأ عن سؤال يتعلق بعدد الطائرات التي هاجمت الولايات المتحدة، وتلك النسبة ارتفعت بعد ثلاث سنوات إلى 19 %.
أما في ديوك، فبعد أسبوع فقط حكى الطلاب الأربعة وخمسون قصصًا مختلفة عمَّا سبق أن قالوه عقب الحادثة مباشرة. كل واحد منهم كان قد روى خلال تلك الفترة ما حدث لكثيرين من معارفه، وبالطبع ترسَّخت القصة في دماغه كما يرويها، لا كما وقعت. بعض الأخطاء كانت فادحة، مثل تغيير أسماء الأشخاص الذين كانوا معهم وقت الهجمات، أو ذكر لون مختلف للقميص الذي كان أحدهم يرتديه.

من الأفضل الاحتكام إلى المرجع أو المصدر -إن وجد- من البداية، وقبل البدء في الاصطدام بالطرف الآخر، يُفضل أن تستخدم ألفاظًا مثل «على ما أعتقد – أظن ذلك – غالبا – على ما أتذكر» قبل سرد أي معلومة.

كل مَن خضعوا للتجربة ظنوا أنهم يتذكرون تفاصيل يوم الهجمات كما لو أنها وقعت أمس، فيما بهتت أحداث اليومين السابق والتالي بعض الشيء. لكن الدراسة، التي استغرقت نحو سبعة أشهر ونصف، أكدت أن ذكريات الأيام الثلاثة ضعفت بالمعدل ذاته. هذا الاستنتاج نفى ما كان معروفًا قبل ذلك؛ وأثبت أن «الذكرى المتوهجة» قد لا تكون حدثت كما نذكرها بالضبط، وأن عقولنا قد تمارس بعض الألعاب علينا.

تجربة أخرى أثبتت أن مشاهدة مقطع فيديو لأشخاص يمارسون عملًا ما، قد يؤدي بالمشاهدين إلى الاعتقاد أنهم أنفسهم فعلوا ما رأوه على الشاشة. بهذه البساطة يمكن لعقولنا أن تخدعنا، لكن هذا لا يعني أن نفقد الثقة كاملةً في ذكرياتنا، الأفضل أن نفهم فقط أن ما نتذكره ليس دومًا صحيحًا بنسبة مائة من المائة.. كل ذلك كان بالنسبة للذكري المتوهجة ،فما بالك بالأحداث والذكريات العادية ؟!

الشاهد أنه لا داعي للاحتدام والتناحر والمعاندة في النقاش، ذاكراتنا كالمرأة اللعوب، تخوننا طوال الوقت وتملأ فجوات القصص التي تمر علينا باستمرار، وتسد رتوش الأحداث التي تعلق بها إن أصابها غفوٌ أو نسيان.. من الأفضل الاحتكام إلى المرجع أو المصدر -إن وجد- من البداية، وقبل البدء في الاصطدام بالطرف الآخر، يُفضل أن تستخدم ألفاظًا مثل «على ما أعتقد – أظن ذلك – غالبا – على ما أتذكر» قبل سرد أي معلومة؛ فأنت لا تعلم إن كانت ذاكرتك قد خانتك أم التزمت عهدها معك هذة المرة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.