شعار قسم مدونات

رسالةُ من امرأة مجهولة (1)

مدونات - رسالة من امرأة مجهولة

"رسالة من امرأة مجهول" هي قصة طويلة للكاتب ستيفان زفايج (1881 – 1942)، وهو أديب نمساوي. يعد من أبرز كتّاب أوروبا في الفترة بين عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. له نمطان رئيسان في مؤلفاته: التراجم المسهبة لمشاهير من الأدباء والرحالة أمثال تولستوي، وديستوفسكي وبلزاك وماجلان، كاشفًا فيها عن الجوانب الشخصية والحقائق المجهولة في حيواتهم. وصدرت النسخة العربية منها في سلسلة "بناة العالم"، عن دار المدى للإعلام والنشر والثقافة.
 

والنمط الثاني هو ما حمَله على أكفّ الشهرة وحلّق به في سماء الذيوع: الروايات النفسانية التي عُرف فيها بأسلوب سردي خِلوٍ من رتوش التجميل وصقل البلاغة، لكنه متألق في عمق الفهم وبعد النظر ودقة الوقوف على خبايا النفوس التي منها تتولد الحبكات وتتعقد، فجاءت رواياته سلسالًا متصلًا من المرايا العاكسة والعدسات المحدبة المقعرة في آن معًا، لا يكاد ناظر ينظر فيها حتى يبصر نفسه أو بعضًا من نفسه، ولا يغادرها إلا وقد حمل منها أو انطبع بها في نفسه.
 

ومن أشهر ما ألّف روائيًا (ترجِم منها إلى العربية العناوين الخمسة الأولى):
1. حذار من الشفقة
2. 24 ساعة في حياة امرأة
3. فوضى المشاعر
4. لاعب الشطرنج
5. آموك
6. عاشقة في خريف العمر
7. رسالة من امرأة مجهولة
 والأخيرة هي التي نتناولها بالعرض في هذه المقالة بعون الله:
 

كان نهج زفايج في كتاباته: تعقّبُ نفوس البشر بالملاحظة والإصغاء. لذلك نبرة السرد عنده وإن خلت من وعظ إلا أنها عامرة بالحِكَم، زاخرة بالمفاهيم، التي لا تتكشف لمن يتوقف عند ظاهر القصّ وحدّ النص.

إطلالة عامّة
"رسالة من امرأة مجهولة Letter from an Unknown Woman" هي قصة طويلة أو رواية قصيرة (نوفيللا Novella) نشرت عام 1992. القالب السردي للقصة يتخذ شكل رسالة طويلة من امرأة مجهولة الاسم والهوية، إلى كاتب غني ومشهور -وإن لم يذكر اسمه في النص كذلك-، تخبره فيه بمأساة عشق لم يقاسِ لهيبه سواها، بينما هو عنها في شغل شاغل.
 

ملخص الأحداث

تبدأ القصة حين انتقل الكاتب المشهور كمستأجِر شقة في نفس البناية التي تعيش فيها البطلة مع أمها، في فيينا بالنمسا. كانت هي آنذاك مراهقة في فورة الصّبا، في الثالثة عشرة من عمرها، تعيش وحيدة مع أمها بعد وفاة والدها، بمعزل عن بقية الجيران ومخالطتهم، وكان الكاتب في بداية مسيرته المهنية بشكل عام.
 

على مدى 25 صفحة كُتبت فيها الرسالة، تمضي تلك المرأة المجهولة تحكي تفاصيل غرامها بذلك الكاتب عن بعد، وركام الخيالات الذي نسجته حوله مما تتسقطه من أخباره ذات اليمين وذات الشمال، وتسهب في وصف دقيق مراقبتها لأوقات دخوله وخروجه، وترقّبها لكل سكنة تصدر منه فيما يظهر لها من ثقب مفتاح الباب، وتخيّلها لما يمكن أن يكون منه حين يختفي عن ناظريها. كل هذا بغير أن يفطن هو إلى تلك العينين المعلّقتين به في دخوله وخروجه، أو يرى فيها أكثر من طفلة من أطفال الجيران، تجلس في شرود على السلالم!
 

ثم كان أن انتقلت الفتاة بعد زواج أمها إلى محافظة أخرى، وما كادت تتم الثامنة عشرة وتستقل بنفسها، حتى عادت أدراجها إلى فيينا حيث مسكنهم السابق، وحيث الكاتب! لم تخفت حرارة الوَجد في قلب تلك الغادة طوال تلك السنوات. فحصّلت وظيفة وسكنًا في مكان مجاور لسكنه خصيصًا، وظلت تراقبه وتتبّعه وترصد جدوله اليومي، حتى ظفِرت بجواز مرور إلى شقته كخليلة بعد أن عرَضت نفسها عليه، غير أنها كانت أوفر من سابق الخليلات حظًا في تكرار زيارته ثلاث ليالٍ متتالية، فارقته على إثرها لأنه لم يتذكرها البتة، ولا بدا أنه رأى فيها شيئا سوى "صحبة لطيفة" لإزجاء الوقت والشهوة!
 

غير أنها دخلت غرفته فردًا وغادرته اثنين! ولشدة تعلقها بالرجل صممت أن يحيا طفله نفس نمط الحياة الوادعة الميسورة، فاتخذت من عِرْضِها تجارة، وحَلَفت له في رسالتها أنها ما أسلمت الرجال سواه إلا جسدها، أما روحها فظلت متيّمة به حِكْرًا عليه. وتمر بها الأيام مرًا وتطويها الليالي طيًا حتى تقابله ثانية، فتُسلِم نفسها له للمرة الرابعة في محاولة يائسة عساه يتذكُرها، لكنه لفرط سكره لم ينتبه حتى إلى أنه قضى معها ثلاث ليالٍ قبلًا! فغادرته وقد تصدّع قلبها، وأيقنت أن يدها مما علقت به صِفر، فزهدت في الحياة والأحياء أو ماتت دونهم وهي بين أظهرهم.
 

واستأجرت شقة حقيرة في ضاحية فقيرة، وضعت فيها طفلها بعد معاناة، ولم يلبث الوليد إلا يسيرًا حتى أصابته حمى الإنفلونزا التي تفشت في منطقة سكناهما، فتوفي على إثرها، وبقي في أمه بضع أنفاس تتردد من بعده قبل أن يفتِك بها نفس المرض، فرأت أن توجه أثَارتَها إلى ذلك "الحبيب الأوحد"، في رسالة تموج بالألم، وتعصف بالمشاعر، تخبره فيها عن هوّيتها دون ذكر اسمها، وعن روحها التي هامت به دون أن تجد إليه سبيلًا، وعن طفلهما الذي خرج من رحمها ليُدفن في رحم الأرض.
 

كاتب القصة ليس في حاجة إلى أن يبحث عن موضوع لها بقدر حاجته إلى أن يدع الشخصيات والوقائع تبحث عن هذا الموضوع إذا توافرت للمؤلف ملكة الملاحظة والإصغاء.

وتنهي المجهولة الرسالة بشكرها له على كل شيء رغم كل شيء! وقد سرّى عنها أنها باحت له بخبرها على إدراكها أنه لن يفهم عنها تمامًا، وأنها لم تكلفه يومًا بحبها عبئًا ولا طالبته بمردود، وكان غاية رجائها منه أن يصدّقها ويؤمن بصدق حبّها له! وتُختتم القصة بمشهد الكاتب يضع الرسالة جانبــًا بيد خائرة القوى، شاعرًا كأنه غارق في حلم بين ظلال آدمية. ويمرر كفّه على جبهته جاهدًا أن يتذكر تلك المرأة، فلا تلوح له إلا خيالات مرتعشة لذكريات غابرة، عن جارة وابنة لها نحيلة، ورائحة موت قريب تلفح المكان.
 

ركائز الحَبْكَة

نُقِل عن زفايج في مقدمة روايته "حذار من الشفقة": "ليس هناك ما هو أبعد من الحقيقة من الظن السائد بأن خيال الروائي دائب النشاط في رأسه، وأن قدرته على الخلق والابتكار لها رصيد من القصص لا ينفد ومعين من الحوادث لا ينضب. فالواقع إن كاتب القصة ليس في حاجة إلى أن يبحث عن موضوع لها بقدر حاجته إلى أن يدع الشخصيات والوقائع تبحث عن هذا الموضوع إذا توافرت للمؤلف ملكة الملاحظة والإصغاء.. وهكذا يحدث أن يفضي الكثيرون بقصصهم طائعين إلى الشخص الذي طالما حاول أن يتعقب مصائر البشر!".
 

هكذا كان نهج زفايج في كتاباته: تعقّبُ نفوس البشر بالملاحظة والإصغاء. لذلك نبرة السرد عنده وإن خلت من وعظ إلا أنها عامرة بالحِكَم، زاخرة بالمفاهيم، التي لا تتكشف لمن يتوقف عند ظاهر القصّ وحدّ النص.
 

في الجزء الثاني بإذن الله نقف على أهم المفاهيم التي ارتكزت عليها حبكة الرواية، ونُسجت حولها الأحداث وتداعياتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.