دقّات الساعة، طعام الإفطار وآذان العشاء تلتف في ذاكرتي المحترقة محولةً إياها إلى دياجيرَ مظلمةٍ، لم تعتدْ أن تسكنَ هناك بلا قبس نور، لذا تركنُ إلى زوايا عقلي السوداء لترسلَ إشارة للبكاء ربما تعتبرُ الأشياء البسيطة من أكثر الأمورِ تعقيداً عند رحيل صاحبها، فتصبح مؤلمةً بقدرٍ غريبٍ. وتحمل رياح كانون الأول ذكريات صامتة على وقع حادثة ليست بالسهلة، لفقدان أثرها الزمني من مخيّلتي الفوضويّة، كان صباحاً بارداً تتسرب فيه أشعة الشّمس بهدوء، مخترقة السحاب لتعلن وجودها وكيانها في السماء.
أما أنا فكنتُ أستعد للذهاب إلى عملي كعادتيَ الصّباحيّة المملة، لم أكن بنفسيّةٍ جيدةٍ جداً، إذ كان يوميَ السّابق شاقاً كثيراً، ظهرت أمي على باب الغرفة فجأة لتعلمني بموعد الإفطار، تفحصتها بصمت وأظهرت وجهيَ العبوس ذاته، جلست على المائدة، وتناولت الخبز ثم ما لبثت أن بصقته صارخا:
– لم الخبز محروق يا أمي؟
= حسنا بني اهدأ سأحضر لك رغيفا آخر
– كلا فقد فقدت شهيتي ..
بدأت دموعي تبني أعشاشها على فسحة وجهي، توجهتُ صوبَ غرفة العمليّات مجنوناً تبعثر عقلهُ، كي يُطمئن قلباً غشاهُ النّدم، لكنها كانت كعروسٍ يوم زفافها، مغطاةً بكفنها الأبيض، ويا ليتني كنتُ الكفن |
مضيت إلى العمل، وفي ساعات الظهر رنّ هاتفي مرارا، من تُراه يكون ليتصلَ عليَّ وقتَ العملِ، لم أجبْ وآثرتُ إغلاقَ الهاتف، جلستُ قليلاً أحتسي الشاي في "الكافتيريا"، فإذا بصديقي يهرعُ إليَ لاهثاً بوجه مكفهر، كانت حالته صعبة جدا مصفرا عابسا ظهر كشبح رأى نورا أفزعه فتكور على نفسه، وقال متلعثما _أمك يا حسن في حالة يُرثى لها راقدة في المشفى وتودُّ لقاءك بشدة، لم أفهمْ سبب حالته تلك وقلت _حسناً بعد انتهاء الدوام سأذهب إليها، أظن أنّها إحدى حركاتِها المعتادةِ للفت الانتباه، عبس راشد لدى سماعه حديثي وانطلق عبر الممر الطويل بتمتمةٍ ودعوة .
مضت ساعات العمل وكانت الثالثة، توجهتُ بسيارتي نحوَ المشفى المذكورِ، صادفتُ موظفة الاستعلامات أنشدتها عن والدتي، فقالت _حالتها حرجة جدا أدخلت إلى غرفة العمليات في جراحة عاجلة، لم تسعفني كلمات لتجد ردّا مناسباً وتابعت حديثها :ماهي صلة قرابتك بها، _أنا ابنها، _اذن أنت حسن، _أجل وكيف عل… وقبل أتمّ جملتي وضعتْ أمامي ورقةً بيضاء مطوية، _هذه من والدتك تفضل، جلست على كرسي قريب وهممتُ بالقراءة "ولديَ العزيز، ربما هذه آخر كلماتي وسيحتضنني القبرُ بعدها لعالمٍ سرمديّ، سامحني بني لأنني لم أتمكن من إعداد خبز جيد هذا الصّباح، ولم أتمكن من نزع حزنك الليلة الماضيّة، صدقني أحبك كثيراً دمت بخير يا طفلي وسندي وكل شيء "
بدأت دموعي تبني أعشاشها على فسحة وجهي، توجهتُ صوبَ غرفة العمليّات مجنوناً تبعثر عقلهُ، كي يُطمئن قلباً غشاهُ النّدم، لكنها كانت كعروسٍ يوم زفافها، مغطاةً بكفنها الأبيض، ويا ليتني كنتُ الكفن، اعتزمت الرحيل قبل أن أخبرها كم كانَ خبزُها لذيذاً هذا الصباح وكم أنا وغد حقير، اعتزمت الرحيل قبل أن أتوجه لها آسفا على ما قد مضى ودُثر بلا أي رجعة، هل يمكن أن نصطنع حديثا زمنيّا يراود أسير الفؤاد بقلبة لميّت رحل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.