شعار قسم مدونات

مأزق الهوية الجاهزة

blogs التعاون

من أنت؟ سؤال لن تستطيع مطلقا الإجابة عليه دون استحضار هويتك أو بالأحرى هوياتك المتعددة، فالهوية هي الصورة الحقيقية للإنسان التي تعكس أصوله وثقافته وتاريخه وعقيدته ولغته وباقي انتماءاته الفكرية والمهنية والإيديولوجية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تختزلها في بعد واحد، فقد تكون في نفس الوقت مسلما وطبيب تجميل ومدافعا عن حقوق المرأة وناشطا في جمعية للدفاع عن حرية الاعتقاد وعضوا في حزب ليبرالي.

وتبقى الهوية هي أقوى مصدر للفخر والثقة والقوة والتالف والاتحاد بين أعضاء نفس المجموعة، لكنها ومع الأسف قد تكون أكبر دافع للاحتقان والقتل والإبادة وإشاعة خطاب الكراهية والعنف والعنصرية بين المجموعات المختلفة. 

فخلال نظرة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي لا يمكن أن نغفل حجم وقوة المنشورات والتعليقات التي تمجد وتقدس الانتماء لمجموعة ما، دينية كانت أو فكرية أو إيديولوجية دونما أي ضرورة لذلك. والتي في الغالب ما تهاجم بشكل مباشر أو غير مباشر باقي المجموعات. مما يعزز مشاعر الفخر لأعضاء المجموعة ويسبب في نفس الوقت استفزازا وغضبا وإحساسا بالمهانة بالنسبة لأفراد المجموعة المستهدفة، كما لا يمكن أن نغفل طريقة صياغة أغلب عناوين الأخبار التي تبدأ بهوية الشخص الدينية أو توجهه السياسي أو الفكري دون أن يكون لذلك علاقة بالحدث.

إن الفهم الخاطئ للهوية وتجاهل وجود هويات مشتركة ومتنوعة وتصنيف الناس إلى مجموعات ثقافية أو دينية أو حضارية متنافرة يساهم بشكل كبير في إشعال فتيل حروب متوحشة وتوارث أحقاد تاريخية

كأن تتم صياغة خبر على شكل – أقدم شاب مسلم على قتل مشغله – ويجعل القارئ أو المشاهد مستاء من المسلمين بشكل عام أكثر من استياءه لما حدث حتى وإن كان في تفاصيل الخبر أن الحدث كان بسبب معاملات مالية بين الشخص ومشغله وهو مشكل لا علاقة له إطلاقا بأي توجه ديني أو ثقافي أو بأي هوية كانت، مما يزيد من قوة وخطورة الاحتقان والتنافر بين المجموعات قد تصل إلى حروب متجددة وحوادث عنف أكثر خطورة . 

إن الفهم الخاطئ للهوية وتجاهل وجود هويات مشتركة ومتنوعة وتصنيف الناس إلى مجموعات ثقافية أو دينية أو حضارية متنافرة يساهم بشكل كبير في إشعال فتيل حروب متوحشة وتوارث أحقاد تاريخية. فحتى ونحن نجتهد في إشاعة مفهوم حوار الحضارات فنحن نعزز بذلك مفهوم المجموعات الدينية والثقافية المنفصلة وخلق مجموعات منعزلة أكثر عدوانية، فقد أبدع أغلب القادة عبر التاريخ في استغلال مفهوم الانتماء لإشاعة مشاعر الكراهية بين المجموعات عبر خلق شخصيات خرافية تاريخية وترسيخ ملاحم من وحي الخيال وتداول قصص مظالم مؤلمة تثير مشاعر الانتقام والثأر، ما يؤسس لعلاقات عداء أبدية تولد مع الإنسان ولا تنتهي إلا بفناءه، فأن تكون مسلما لا يعني أنك مسؤول عن تصرف أي مسلم أخر، وأن ترفض وتنتقذ انتهاك حقوق الإنسان من طرف المحتل لا يعني أنك تعادي السامية. فلا يمكن أن نجعل الهوية تحكم مصائرنا، فنحن نشترك في الإنسانية ونشترك في عدد لا يحصى من الانتماءات القوية الأخرى. 

لا يمكن أن نحقق السلام والأمن العالمي في ظل ترسيخ ثقافة الانتماء الضيق وجعل العالم فدرالية كبيرة من الأديان والثقافات والحضارات

إن الجهر بالهوية والانتماء كان ومازال يشكل خطرا في الكثير من الدول، فهناك مجموعات كبيرة من البشر تعيش في سجون كبيرة وتعاني إقصاءا كبيرا فقط بسبب أصولها أو ثقافتها أو توجهها الديني، فعلى مر التاريخ أبيدت شعوب بأكملها نتيجة لهذا التصنيف الضيق واللاإنساني كما حدث للسكان الاصليون في أمريكا الشمالية وأستراليا وما عاناه الأفرقة من طرق استعباد واضطهاد وما يحدث حاليا ميانمار وما كشفته أزمة اللاجئين من مشاعر الرفض من طرف الأوروبيين الذين ما فتأوا يتباهون بقيم المساواة والعدالة والتسامح وبدفاعهم عن حرية الرأي والتنقل وحرية الاعتقاد والتفكير.

بشكل عام ومنطقي لا يمكن أن نحقق السلام والأمن العالمي في ظل ترسيخ ثقافة الانتماء الضيق وجعل العالم فدرالية كبيرة من الأديان والثقافات والحضارات، فلا يمكن أن نتجاهل باستمرار ثقافة الاحتقار والتعالي بين المجموعات وإقصاء مجموعات كبيرة من الناس من كل فرص الحياة العادلة بسبب انتماءاتهم، فنحن الأن ملزمون بإشاعة ثقافة الانتماء السامي كوننا جميعا بشر وبجعل التنوع الثقافي والحضاري قيمة إضافية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نواصل تجاهلنا للفوارق المهولة في الإمكانيات وفرص الحياة الكريمة بين الشمال والجنوب في وقت يتوفر فيه العالم على ثروة غذائية مهمة تكفي لكل البشر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.