شعار قسم مدونات

عن "تكفير المسيحيّين".. الاستبداد إذ ينقلبُ على مشايخِه

blogs - copts

لا أظنّ أنّ جديدا يُمكنُ أن يُقال في الجدلَ الذي ثار في مصر حول ما إذا كان المسيحيّون "كفّارا" أم لا، فالمواقف والإجابات المحتمَلة لهذه القضيّة قيلَت منذ زمَن، ويختارُ النّاسُ منها ما يعتقدون أنّه الصّواب أو ما يطمئنّون إليه أو ما تقتضيه اللياقة و"الصوابيّة السياسيّة"، أو مزيجا من ذلك.
 

ستجدُ من يقول إنّ المسيحيّين كُفّار بمعنى عقديّ مفادُه أنّهم ليسوا مؤمنين بالإسلام، ومن حقّ -بل من طبيعة- كلّ دين أنْ يُحدّدَ أركاناً أساسيّة ينبغي لمعتنقِه أن يعتقد بها و/أو يعملَ بها، وبالتّالي فإذا اعتقدتَ أنّه ما من إله فأنت كافرٌ بالإسلام، وإذا اعتقدتَ بالتّثليث فأنتَ كافرٌ به للسبب نفسِه، كما أنّ إنكارَ التّثليث يجعلكَ كافرا بالمسيحيّة، وبالتّالي فالأمر طبيعيّ جدّا ومتفهَّمٌ جدّا في دائرة الدّين والأديان.

ستسمعُ كذلك من يعترضُ على ما سبقَ من أكثرَ من زاوية، فهناك من سيعترضُ لأنّ في هذا تسويةً بين الأديان، بينما -حسب المعترض- هناك كفرٌ مطلَق، فالكافر بالإسلام كافرٌ مطلَقاً لأنّ الإسلامَ هو الحقّ المطلَّق، فالكفر به ليس كفرا نسبيّا بل مُطلَقا. ستجدُ كذلك من يعترضُ من اتّجاهٍ آخَر مفادُه بأنّ في هذا التوصيف البارد للموضوع تجاهلا للظّلال الاجتماعيّة والقانونيّة التي يترتّبُ عليها الحكمُ ب"كفر" أحدِهم، سواء أكانَ مسيحيّا أم غيرَه، فإذا كنتَ تكفّرُ شخصا أو جماعة، فأنت تفتحُ الباب لظلمِهم وإهدار حقوقِهم وربّما قتلِهم -وهو ما تفعلُه بعض جماعات السلفيّة الجهاديّة- وبالتّالي فالأمر أبعد غورا من مجرّد اصطلاحٍ عقديّ .. ستسمعُ هذه الآراء كلّها وغيرَها، وليس في ذلكَ أيّ جديد..

وعليه فالجديد في الجدل ليس موضوعَه، بل ظروف إثارتِه، خصوصا ظرفَين اثنَين، سأذكرُ أحدَهُما في عجالة، وأفصّلُ في الثّاني لأنّه موضوع هذه الكتابة.
 

أمّا الظرفُ الأوّل: فهو ما يمكنُ أن نسمّيَه "إيجاد أسبابٍ للفشل"، وهذا احترافٌ تتقنُه النّظم المستبدّة والسلطويّة والفاشيّة. حين يكونُ النّظام الحاكم نزيها وذا رؤيةٍ حقيقيّة لمسارٍ البلد، ينصبُّ جهدُه وفكر خبرائه وسياسيّيه وبيروقراطيّتِه إلى اكتشاف وتذليل العقبات التي تحول دون التقدّم في هذا المسار. حتى النّظمُ المستبدّة والفاشيّة تفعلُ ذلك إذا كان لديها بالفعل مشروعُ نهضة أو تحديث أو إصلاح حقيقيّ.
 

قد تتبنّى الدولة موقفا متصالحا جدّا مع المسيحيّين في بلد عربيّ، وقد يكون من بينهم وزراء وموظّفون كبارٌ، لكنّها في الوقت نفسه تتحالف مع مؤسّسة دينيّة رسميّة لا يفتأ رموزُها يكرّرون الموقف الدّينيّ التقليديّ من أنّ المسيحيّين "كُفّار"

لكنّ النظمَ التي تجمع بين الاستبداد والسلطويّة من جهة، وبين الفشل الذّريع وغياب أيّ رؤية ذات معنى للتقدّم والإصلاح من جهة أخرى، تحتاجُ دائما إلى تقديم أسبابٍ للفشل. الفشلُ حقيقةٌ واقعةٌ لا يمكنُ نكرانُها لأنّها تمسّ الناس، فإذا كان الاقتصاد يتراجع، والعملة تنهار، والوظائف تنحسر، والأرزاقُ تضيق، فهذه كلُّها مؤشّرات موضوعيّة ملموسة على الفشل، وحين يعلم النّظامُ تماما أنّه ما من حلّ عندَه لها، فالحلّ الوحيد هو تقديمُ أسباب مختلفة ومتغيّرة كلّ مرّة لها.
 

لا يمكن حصرُ الأسباب التي خرجت بها النّظم المستبدّة لأزماتها، من يهودٍ مرابين يحتكرون الاقتصاد، إلى العمالة الرخيصة المهاجرة التي تنافس على الوظائف، إلى طائفة أو عرقيّة معيّنة تُنسَب المشكلات إليها، إلى المؤامرات الأجنبيّة، إلى الانقسام المجتمعيّ، إلى شحّ الموارد، إلى كثيرٍ غيرِها.

في هذا المزاج، كلّ تصريحٍ أو موقف أو حدث هو مشروعٌ محتمَل لسبب يمكنُ تقديمُه للجمهور على أنّه المسؤول عن الفشل. في بلد مستقرّ وحرّ نسبيّا وذي اقتصاد غير متهالك، كان سيمرّ تصريحٌ معتاد وغيرُ جديد من قبيل أنّ "المسيحيّين كفّار" من دون جدل يُذكَر، بل يمكنُ أن يمرّ أكثرُ من ذلك، فالمجتمعات الحرّة ذاتُ النّظم الشرعيّة والمؤسّسات الرشيدة تحتملُ كوارثَ طبيعيّة وتفجيرات وحروباً، وتحرصُ على ألا تجعلَ حتّى من الأحداث الجسيمة سببا للفزَع والهلع. أمّا النظم المستبدّة الفاشلة فتحتفي بهذه الأحداث أيَّما احتفاء، ويتحوّلُ فيها تصريحٌ لا يحملُ أيَّ جديد إلى سببٍ للجدل والانقسام ينفخُ فيه الإعلام وتركبُه أجهزةُ النّظام ويمتدُّ فيه الحديث إلى "ثقافة" متأصّلة ومتجذّرة تحول دون التقدّم أو "تاريخ" يجب تحطيم رموزِه وإعادة قراءتِه، و"خطاب" ينبغي إصلاحُه ومراقبتُه، ولا تنتهي سلسلة الاقتراحات التي تطالُ كلَّ شيء إلا الأسباب الحقيقيّة للفشل.
 

أمّا الظرفُ الثّاني: فهو انقلابٌ من الانقلاب على المؤسّسة الدينيّة الرّسميّة، ما تزال فصولُه تتوالى وتتّسع، رغمَ أنّ هذه المؤسّسة كانت وما تزال تقليديّا موالية للدولة ومنسجمةً مع خطّها الرسميّ. لهذا الانقلاب ظروفٌ وملابساتٌ بالغة الدلالة والأهمّيّة.

 

حرصتْ أكثرُ النّظم العربيّة على أن ترعى شكلا أو نمطاً معيَّنا من التديّن بحيثُ توظّفُه لغايات متعدّدة. أخذ هذا أحيانا شكلَ المؤسّسة الرسميّة المنظّمة، كما هو الحال في مصر والسّعوديّة، وأخذ أحيانا شكلَ مجموعةٍ من المشايخ تُدعمُهم السلطة بالتصريح أو التلميح لكن من دون مؤسّسة منظّمة، بحيث تتيحُ لهم إعطاءَ الدروس في الجوامع الكبرى والظّهورَ على القنوات الرّسميّة وخطبةَ الجمعة في حضور الرئيس أو الملك، وأخذ أحيانا شكلَ دعم الدولة السّرّي والعلنيّ لجماعات معيّنة ذات طابع شبه منظّم ولكن بلا مؤسسة رسميّة، بحيثُ تتاحُ لهذه الجماعات فرصة الدعوة والانتشار والنّشر والتحرّك بلا مضايقة أمنيّة، وكانت الجماعات الصّوفيّة والسلفيّات الجاميّة والعلميّة خيارا مفضّلا.
 

تختلف علاقة الدولة بهذه الأنماط من التديّن المدعوم أو المرضيّ عنه عموما حسبَ كلّ دولة وحسبَ طبيعة هذا التديّن وشكل تنظيمه، لكنّ هناك ملامحَ عامّة يقومُ عليها هذا التعاقد الصريح أو الضّمني، هي:
 

العملُ من أجل كفّ يدِ السلطة عن بعض نشاطات المجتمع، أو تحجيم تدخّلِها فيها، صار عملا سياسيّا صميما وبحاجة لعمل سياسيّ وتنظيم سياسيّ بل وصولٍ للسلطة أحيانا من أجل تحقيقِه.

أولا: عدم الخوض في السياسة عموما، خصوصا مسائل الشّرعيّة ونظام الحكم ومحاسبة الحاكم، وإذا ما فرضَ شأنٌ سياسيّ ضخمٌ وعامّ نفسَه على الجمهور، فخطاب هذه الفئات ذو سماتٍ متشابهة ومعروفة: تشويه الاشتغال بالسياسة والتنفيرُ منها ووسمُها بأشنع الأوصاف من أنّها قائمة على الغدر والخداع، ولا تستقيم مع فضائل الأخلاق، وأنّ من السلامة تركُها والاشتغال بالصّلاح الفرديّ و"ما ينفع المرء في آخرتِه"، وإلقاء اللوم على النّاس، لا الحاكم، إذا ما اضطربت الأحوال السياسيّة والاقتصاديّة، من قبيل عزو ارتفاع الأسعار إلى جشع التّجار لا إلى فشل الخطة الاقتصاديّة للحكومة وفسادِها، وعزو غياب الأمن إلى تدهور أخلاق النّاس لا إلى فشل الأجهزة الأمنيّة وغياب الحرّيّات، وغيرها.
 

ثانيا: تقديم نمط تديّن بديل عن الإسلام الحركيّ أو السياسيّ، وذلك بمنافستِه في ما تعتبرُه الدول رافدَه الأهمّ، أي الدعوة والوعظ والتربية والدروس والخطابة في المساجد، وبذلك تحصرُ الدولة الإسلامَ الحركيّ في العمل النقابيّ أو السياسيّ المباشر، المضيَّق عليه والمحاصَر أصلا، وتحرمُه من أن يمثّل نمطَ تديّن فضلا عن كونِه نشاطا حركيّا وسياسيّا.

 

ثالثا: تركُ مساحات واسعة لهذه الفئات تصول وتجولُ فيها وتمارسُ فيها نشاطَها الدينيّ بلا تدخّل حكوميّ، من قبيل قضايا العقيدة، والخلافات الكلاميّة بين الفرق، وجدل أهل المذاهب وأهل الحديث، وقضايا العبادات والأحوال الشخصيّة.
 

بخصوص النقطة الأخيرة، يظنّ كثيرون أنّ الدولة تريد خطابا متطابِقا معَها بشأنِ هذه القضايا، ولكنّ هذا ليسَ صحيحا، بل العكس هو الصحيح أحيانا، فالدولة تتغاضى، بل تدعمُ أحيانا، خطابا مختلفا تماما مع الخطاب الرسميّ للدولة، لكنّها توظّفُ هذا الخطابَ لمصلحتِها وتستفيدُ منه.
 

مثلا، قد تتبنّى الدولة موقفا متصالحا جدّا مع المسيحيّين في بلد عربيّ، وقد يكون من بينهم وزراء وموظّفون كبارٌ في الدولة، وتجّار يمسكون ببعضِ مفاصل اقتصادِها، لكنّها في الوقت نفسه تتحالف مع مؤسّسة دينيّة رسميّة لا يفتأ رموزُها يكرّرون الموقف الدّينيّ التقليديّ من أنّ المسيحيّين "كُفّار". الدولة بهذا تحقّق أكثرَ من مكسب، فهي تتجنّب الصّدامَ الدينيّ المباشر مع قضيّة دينيّة صميمة ستخرجُ الدولة منها خاسرة مهما كان موقفُها، ففي قضيّة كهذه، ستخسرُ الدولة إن قالت إنّ المسيحيّين كفّار، وستخسرُ إن قالت إنّهم ليسوا كفّارا، فالأسلمُ بالتّالي هو عدمُ التدخّل أصلا، وبهذا، تكسبُ الدولة ولاءَ المؤسّسة الدينيّة الرسميّة أو الجماعة الحليفة لها لأنّها لا تتدخّل في خطابِهم الدّيني، وبالتالي فعليهم ألا يتدخّلوا في السياسة بالمقابل، وتظلّ الدولة تقدّمُ نفسَها للغرب على أنّها طليعة تنويريّة لمجتمعٍ بدائيّ يكفّر بعضُه بعضا وسينزلقُ إلى حروبٍ أهليّة لولا أنّ الدولة تحفظُ توازنَه وتحمي مكوّناتِه من بعضها، وتكسبُ الدولة ودَّ الأقلّيات لأنّها تصبحُ في نظرهم صمّام الأمان من الأكثريّة المتوحّشة التي كانت ستفتكُ بهم لولا الدولة.
 

والمفارَقة أن موقفَ الإسلام السياسيّ من هذه القضايا قد يكونُ أقربَ لخطاب الدولة من خطابِ هذه الجماعات، فموقفُه من المسيحيّين مثلا أكثرُ اعتدالا بالتأكيد، لكنّ الدولة تتغاضى عن اتّهامات التديّن الموالي لها لجماعات الإسلام السياسيّ بتمييع هذه القضايا والمهادنة في الدّين وموالاة الكفّار! .. باختصار، تدعمُ الدولة خطابَ التديّن الموالي لها سياسيّا حتى ولو كان أبعدَ عن خطابِها ومتعارِضا معه. تخرجُ الدولة من هذا الوضع رابحة على جميع الصُّعُد.

 

تقديم أحكام الوضوء على قضايا الشّأن العام، أو توهّهم أنّ الصلاحَ الفرديّ أهم من العمل الإصلاحيّ الجماعيّ، كلُّها فروضٌ خاطئة. لكن فضلا عن انبناء هذا الخطاب على أسس خاطئة، فهو معرّضٌ للفشلِ عمليّا

لكنّ هذه المعادَلة كلَّها تبدو مهدّدة ومرشّحة لتغييرات عميقة، ولذلك أسباب كثيرةٌ ليسَ هذا مقامَ تفصيلِها، لكنّ مظاهرَ هذا التحوّل كثيرة، من قبيل السعي الحثيث من بعض الدول العربيّة لإحداث تغييرات جذريّة في المحتوى الدّيني للمناهج، هذا المحتوى الذي كانت كثيرٌ من الدول العربيّة تتغاضى عن كونِه مستمدّا من الرؤية الدينيّة التراثيّة المذهبيّة التقليديّة، تريد كثيرٌ من الدّول أن تطابقَه بخطاب الدولة الرسميّ تجاه الدين. مظهرٌ آخر هو التغييرات التي تحدثُ في السّعوديّة بمراسيم وقوانين رسميّة تخالف ما دأبت على اعتماده المؤسّسة الدينية الرسميّة وامتداداتُها الشعبيّة المتمثّلة في العلماء وطلبة العلم. مظهرٌ آخر هو هذه المواجهة المتّسعة بين نظام السيسي والأزهر.
 

إذا كان من درسٍ مستفادٍ من هذه التغيّرات، فهو أنّ نظريّة التعاقد الصّريح او الضّمنيّ مع الدولة قد تفشل، وبالتّالي فمن بنوا خطابَهم طيلة عقود على "الانشغال بخاصّة امرك" أو "طلب العلم" أو "الانشغال بما يُصلح آخرتك" عليهم أن يعيدوا حساباتِهم.

 

بطبيعة الحال، مشكلة هذا الخطاب ليست فقط أنّه يفشل ويفقد الأرضيّة التعاقديّة مع الدولة، تلك الأرضيّة التي جعلت خطابَه ممكنا، بل هو خطابٌ متهافاتٌ من أصلِه، فتقديم أحكام الوضوء على قضايا الشّأن العام، أو توهّهم أنّ الصلاحَ الفرديّ أهم من العمل الإصلاحيّ الجماعيّ، كلُّها فروضٌ خاطئة. لكن فضلا عن انبناء هذا الخطاب على أسس خاطئة، فهو معرّضٌ للفشلِ عمليّا.
 

ها هو نظام السيسي مثَلا لا يُريد للطلاق الشفهيّ أن يقع، ولا يريد من شيخ رسميّ أن يقولَ إنّ المسيحيين كفّار، بالتّالي فالدولة تُريدُ اقتحامَ مساحاتٍ دينيّة صميمة. ماذا سيفعلُ الذين أوهموا كثيرين بأنّهم يحمون الدين باجتناب السياسة؟ لم تعد القضيّة اجتنابَ الصّراع السلطويّ والانشغال بإصلاح المجتمع، فالدولة لا تريدُ الهيمنة على المجتمع فحسب، بل تريد اختراق خطابك وتغييره، فماذا ستفعل؟
 

هذه التحوّلات دليلٌ جديد على أمرٍ واضحٍ من المخجلِ أننا ما زلنا بحاجة إلى تأكيدِه، ألا وهو استحالة اجتنابُ السّياسة، وأنّ من لا يمارسُ السياسة ويخوضُ صراعَ السلطة أو لعبة السلطة لن يسلمَ في رزقِه ولا في دينِه. حتّى العملُ من أجل كفّ يدِ السلطة عن بعض نشاطات المجتمع، أو تحجيم تدخّلِها فيها، صار عملا سياسيّا صميما وبحاجة لعمل سياسيّ وتنظيم سياسيّ بل وصولٍ للسلطة أحيانا من أجل تحقيقِه. من يتحدّثُ اليوم عن انشغال بالنّفس وصلاحِها وعكوفٍ على طلب العلم والانكفاء على الانخراطِ في السياسة، يهذي بخطابٍ لا يصلحُ لدولة العباسيّين، فضلا عن أن يصلح لزمن الدولة العربيّة اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.