يبدأ ذلك الشيخ بالتصدّي للخلافيّات ومواطن النزاع مع الشيوخ الآخرين الأقلّ شهرة، ليبرز نجمه في الخوض في هذه الجدليات، وينأى بنفسه عن المهاترات ليظهر بأبهى شكل وحلّة أمام جمهوره. ثم ما يلبث أن ينتقد ذلك الشيخ الخطاب التقليدي النمطي للشيوخ، الذين لا يقدرون أن يتخلصوا من عقدة السلف أو جمود النص أو العبارة الفقهية القديمة المعقدة.
وينتقل بعد ذلك إلى خطابه التحرّري المنفتح الذي يجتزئ فيه نصوصا وفتاوي وأقوال شاذة على خلاف المشهور، ليظهر بمظهر العالم الذي أخرج ما (أخفاه) العلماء والفقهاء الأقدمون، أولئك الذين أخفوا العلم وكتموه ليعسروا على الناس ، بينما هو الميسّر المنفتح الليّن الهيّن الجريء. كما يحرص على وضع اللائمة بتخلف أمة الإسلام على صنفين من العلماء:
تكمن المشكلة في أنهم جعلوا ثوابت الدين باباً للجدل والتشكيك، وطرحوا مبادئ التفسير واستنباط الأحكام بدون أية قاعدة من قواعد العلم (ولكل علم في الحياة قواعد).. وأباحوا لكل قارئ أن ينتقد كاتبه. |
الأول العلماء (التكفيريون) دون أن يسمي أحداً منهم، فمصيبة الإسلام بكل أولئك الشيوخ التفكيريين الذين (نفّروا الناس من الإسلام) وبالتالي انحرافك عن جادة الصواب، أو قلة تدينك ليست مسؤوليتك، وكذلك نظرة الغرب العنصرية للإسلام، ومظاهر الإسلاموفوبيا، وفشل الإسلاميين في السياسة وتخلف كل أمة الإسلام هي مسؤولية العلماء والدعاة والفقهاء الآخرين! وهو هنا يشعرك للحظة بخطابه أن (كل باقي العلماء) هم المقصودون بكلامه، فأي شيخ وداعية تقليدي تشعر لوهلة أنه متعصبٌ متحجر، بالتالي هو سبب بلاء الأمة.
والصنف الآخر من الشيوخ الذين يعاديهم؛ هم الذين لم يبينوا للناس خطر أولئك (التكفيريين) وسكتوا عنهم، ولولاه هو لبقي الدين حكراً على أولئك الشيوخ، فجاء هو وأنقذ الإسلام والمسلمين، وأخرج المستور، وفسّر التفسير الحديث المنطقي المعاصر، وبيّن للناس ما كتمه العلماء.
كما ويعادي ذلك الشيخ "المتحزبين" من الدعاة، المصنفين، الذين لا جمهور لهم خارج إطار جماعاتهم، كعلماء الإخوان المسلمين والسلفية وما شابههم، ليظهر بأنه (داعية الأمة).
و"شيخ الجماهير" يظهر بالحلة العصرية "المودرن" البعيدة عن الّلحية الطويلة والثوب الأبيض، ويكرّس مظهره (الكول) أمام الجمهور الذي لم يعد يقبل أمام انفتاح وسائل الإعلام بالشكل التقليدي للعالم والداعية.
ليس الخطر في هذا النوع من الشيوخ (شيوخ الجماهير) بمجرد أنهم موجودون، وليس هنالك أية خطورة بفتاويهم وآرائهم الشاذة أو التي تخالف أقوال جمهور الفقهاء. فعصور المسلمين لم تخلُ من أمثالهم مطلقاً، سواء كانوا شيوخ الجماهير، أو شيوخ السلاطين، وقد ورد في كتب التاريخ الكثير عن الذين يحسدون بعضهم عندما يتزاحم المريدون على مجلس فلان دون فلان.. خصوصاً في العصر العباسي الذي نشطت فيه الحركة العلمية نشاطاً كبيراً.
مريدو هذا النوع من الشيوخ وجمهوره، لا يختلفون عن المريد بين يدي المتصوف، وإنما اختلف الشكل من حلقة كتّاب وطريقة صوفيّة، إلى الهواتف الذكية. |
ولكن تكمن المشكلة في أنهم جعلوا ثوابت الدين باباً للجدل والتشكيك، وطرحوا مبادئ التفسير واستنباط الأحكام "الشخصي" بدون أية قاعدة من قواعد العلم (ولكل علم في الحياة قواعد).. وأباحوا لكل قارئ أن ينتقد كاتبه، ولكل قارئ آية أن يفسرها كما يريد، وأن يشكّك في تفاسير "المفسرين" لها، ولكل قارئ حديث أن يشكك بصحّة الحديث أو بحجّيته، ولكل طويلب أن يتطاول على كبار الأئمة، ولأي أحد أن يتجرأ على أي داعية وعالِم. فأصبح الدين مثار تشكيك لمن هبّ ودبّ، لا يُقبل من عالم علم، ولا من فقيه فقه، ولا من مفسّر تفسير، ولا من محدّث حديث.
أما مصدر نشوة ولذة ومتعة "شيخ الجماهير" فتأتي عندما يصبح أيقونة للجماهير، يتجادلون حوله، فتصبح محاضراته أو خطبه أو فتاويه أو دروسه محطّ نزاع. تصبح منشوراته تغرّد من الناقدين حيناً، ومن المدافعين أحياناً أخرى..
مريدو هذا النوع من الشيوخ وجمهوره، لا يختلفون عن المريد بين يدي المتصوف، وإنما اختلف الشكل من حلقة كتّاب وطريقة صوفيّة، إلى الهواتف الذكية.