إنَّ ما تشهده سوريا وليبيا واليمن وغيرها من البلدان غير المستقرة في العالم الإسلامي اليوم، ما هو إلا تراكمٌ لأزمات ولدت بميلاد الدّولة الحديثة في العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة العثمانية. كما أن الواقع والإبحار في التساؤلات الرَّامية إلى الإصلاح والخروج بالمجتمع المسلم ممَّا آل إليه يحتِّمان علينا أن نسأل حافظ الأسد قبل بشار؛ أن نسأل بورقيبة قبل بن علي؛ أن نسأل بومدين قبل بوتفليقة. سؤالا يُحرج الماضي ويُبكي الحاضر ويُبقي المستقبل تائها هائما حائرا، ماذا قدّمتم حتى تقوم الدّولة المنشودة؟
من حق جيل اليوم أن يسأل: لماذا نجحت إيران في استغلال انشغال العالم بالحرب الباردة وعمل الخميني على التأسيس لدولته المنشودة؟ لماذا نجحت ماليزيا عندما غيَّر مهاتير محمد وجهته من الغرب إلى الشرق نحو الصين واليابان؟ |
شهدت أواسط القرن العشرين خروج دبابة المستعمر دون فكره وثقافته ووصايته من دول العالم المستعمَر. ليفرضَ واقعُ الحربِ الباردة على الاستقلال البكر احتلالا من نوع لطيف هو احتلال الوصاية والتبعية. فكان أن انقسمت الدول المخدوعة بالاستقلال إلى موالية للقطب الرأسمالي وموالية للقطب الاشتراكي في عمليةِ تثبيتِ الاحتلال بالتبعية الفكرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية لأحد الأقطاب.
في تلك المرحلة ظهرت في العالم العربي تيارات سياسية إسلامية وقومية حاولت الخروج بمجتمعاتها من واقع التخلف والانقياد. لكن الذي حدث أن تلك التيارات عانت من صدامٍ مرير فيما بينها فرَّق شملها وكسر شوكتها وشلل طاقاتها. كما دخلت الكيانات الإسلامية السياسية في صراع مع السلطة وأعلنت الحركات القومية والليبرالية ولاءها لأحد الأقطاب العالمية.
يعلم التاريخ وحده في التجربة الجزائرية لماذا لم تلتحم القيادة العسكرية السياسية الممثلة في هواري بومدين بالقيادة الفكرية الممثلة في البشير الإبراهيمي ومالك ابن نبي لتأسيس الدولة النموذج بما عندنا من معطيات فكرية وسياسية وثقافية وحضارية. لماذا لم يقبل بومدين المشروع الحضاري لابن نبي وارتمى في أحضان الروس متبنيا الاشتراكية؟
صحيح أن الدَّولة الحديثة الخارجة للتو من حرب ضروس ليس من السهل بناؤها، لكن لا معنى للاستقلال عندما يُطلب نموذج الدولة جاهزا دون خلقه وصناعته، لا معنى للاستقلال العسكري إن لم يلازمه استقلال فكري وسياسي وثقافي يسمح بالتأسيس للدولة المستقلة بما عندها من مؤهلات فكرية وسياسية وحضارية، لا معنى للاستقلال إن تزعَّم جيش التحرير ضباطا دربتهم فرنسا في جيشها الذي كان بالأمس يحارب جيش الاستقلال، إن لم يكن هذا احتلالا للاستقلال فدلوني على مصطلح أستعمله!
لا شكَّ في وطنية ودور بومدين في إعادة الهيبة والاحترام للشخصية الجزائرية، لكنَّ السَّماح لضباط فرنسا أصحاب العقيدة الزوافية بالترقي في مناصب العسكر الحساسة أقل ما يقال عليه إنه من أسباب ما آلت إليه الجزائر من حرب أهلية في التسعينيات -بالإضافة إلى خطأ الجبهة الإسلامية للإنقاذ- ومحاولة إبقاء الجزائر في قفص الوصاية الفرنسية واضطراب سياسي واقتصادي وثقافي من الاستقلال إلى يوم كتابة المقال هذا.
إنَّ المساءلة الحازمة الجريئة للتاريخ الجزائري القديم والحديث تعتبر مطلبا استراتيجيا ضروريا يفضح عمق الأزمة ومسبباتها وتكون لبنةً حصينةً رصينةً تؤسَّس عليها الدَّولة النموذج التي حقا حقا لا تزول بزوال الرِّجال. وكنتيجة للخلل التاريخي الذي غَيّب المصداقية بين الشعب وتاريخه، لا يجد جيل اليوم الموروث الفكري السياسي العملي الذي يؤسس عليه مشروعه الاستكمالي في سبيل بناء الدولة المنشودة، إنما يسعى جيل اليوم كما فعل جيل الأمس في التأسيس لمشروع مستقل عن الماضي بإهمال أو إلغاء كل جهد بذله السَّابقون.
تبقى المسؤولية قائمة على الجيل السائل أن يبحث في حقيقة الأزمة ومسبباتها علَّه يجد ما يجيب به عندما يستدعيه الجيل القادم لمحاكمةٍ القاضي فيها المستقبل والمتهَم فيها الحاضر والشاهد فيها الماضي. |
من حق جيل اليوم أن يسأل: لماذا نجحت إيران في استغلال انشغال العالم بالحرب الباردة وعمل الخميني على التأسيس لدولته المنشودة؟ لماذا نجحت ماليزيا عندما غيَّر مهاتير محمد وجهته من الغرب إلى الشرق نحو الصين واليابان؟ لماذا نجحت كوريا الشمالية واليابان وألمانيا وغيرها كثير من الدول التي تبنَّت سياسة العزلة والبناء الدّاخلي عندما كان الدّب السوفياتي والنسر الأميركي في صراع على ريادة العالم؟
إنَّ عميقَ التَأمل في تاريخ العالم الإسلامي من سقوط الخلافة إلى يومنا هذا يجعلنا نُدرك أن مسؤولية الانحطاط لا يجب أن يَتَّهم بها إسلاميٌ علمانيًا ولا علمانيٌ إسلاميًا. بل تشترك كل التيارات الإيديولوجية في صناعة موتها. لأن الناصرية سَتَرُد على اتهام الإخوان بماذا قدَّمتم وقد جاءتكم فرصة الحكم بعد سقوط مبارك؟ كما سيرد بومدين على عباسي مدني وعلي بالحاج بكيف أبليتم عندما خُدعتم بطُعم الحكم؟
تبقى المسؤولية قائمة على الجيل السائل أن يبحث في حقيقة الأزمة ومسبباتها علَّه يجد ما يجيب به عندما يستدعيه الجيل القادم لمحاكمةٍ القاضي فيها المستقبل والمتهَم فيها الحاضر والشاهد فيها الماضي والتي بعنوان "سؤال الأجيال عن الدّولة المنشود".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.