شعار قسم مدونات

ذاكرة النكبة

blogs النكبة جرح فلسطين الغائر

ذَلِكَ النُّور.. هل يكذِب؟! قَالَ أنَّهُ سيُنذرُ الظلامَ بخيولٍ قادمةٍ من قلبِ الشمس.. ولكن.. لا شيءَ بعد، وكأنِّي بهِ يعقِدُ معهُ مساومةً مشبوهة، وأبقى أنا خلف ستائرِ الغياب وجدرانِ الانتظار، أنتظرُ ذلك النور، أُمسكُ بشعرةِ الأمل، وأُسلِّي نفسي بالنَّظرِ إلى الوطنِ الساكنِ في مُخيِّلتي بِبيَّاراتِهِ وأهازيجِ فلاحيهِ، وشواطئِهِ الممتدةِ في كلماتِي وأحلامِي.

قبل تسعةٍ وستين عاما بدأت النكبة، ولم تنتهِ حتى اللحظة، فما زالت تبرزُ في واقعنِا بأبعادها المتعدِّدةِ وتداعياتِها الممتدةِ عبرَ الأجيال، فالتعبُ الذي أنهكَ أقدامَ جدي وأبي إذ يسيرونَ فوقَ أشواكِ حاضرِهِم ومستقبلي، أحسُّ بهِ يتسلَّلُ إلى قدميّ، فأجلسُ قبيل الغروبِ على صخرةٍ صماء، أرقبُ شمس الغدِ لعلها تهديني للطريقِ إلى الوطنِ التائهِ في غربةِ التاريخ.  نكبة فلسطين.. (النكبة).. تلك الكلمة.. أو الحدث.. تلك الحيرةُ الكبيرةُ في تحديدِ الفئةِ المنكوبة، واللاحيرة في تحديدِ الوطن المنكوب.

أذكرُ النكبة، ولا أقفُ باكياً على أطلالِها، عذراً.. أخطأتُ التعبير، فنكبتُنا ليس لها أطلال، ما تزالُ حاضرةً في الزمانِ والمكانِ، لن أقفَ باكياً أذرفُ دموعَ التماسيح، ببساطة.. لأَنَّنِي لم أخرج من بيتي حافياً أُصارعُ حدودَ الموت، لم تنقطِع عني أخبارُ أهلي، ولم أجلس على قارعةِ وطني أنتظرُ وطني وبيتي وحقلي، فمهما كان شعوري بالنكبةِ عميقاً فلن يساويَ شعورَ من عاشَها ورأى بأمِّ عينيه كيفَ يتحوَّلُ الوطنُ إلى خيمة، وكيفَ يبكي وجهُ السماءِ الضحوك.

اليوم.. واعترافاً مني بِعدميَّتي بالنسبةِ لحجمِ النكبةِ ومن عاشَها بكلِّ فصولِها وأوجاعِها.. أريدُ أن أستحضِرَ سؤالاً فحَسْب، هذا السؤال أطلَّ بنفسِهِ أمامي بعدَ مشهدٍ من مسلسلِ (التغريبة الفلسطينية) للأديبِ الكبير الدكتور وليد سيف.

ما سبقَ المشهدَ هو اتفاقٌ بين ثلاثِ شخصياتٍ في المسلسل، وهم (مسعود ابْنُ أبي أحمد وأبو عطية وأبو محمود)، مفادُ الاتفاقِ أن يتجاوزوا الخطَّ الأخضر فيدخلوا الجزءَ المسلوبَ من الوطن، ليحظوا بكمياتٍ من (برتقال البلاد) ويعودوا لأُسرِهم بهذه الغنيمة التي تحملُ معها رائحةَ الوطن وتختزلُ كلَّ الذكريات في كيسِ برتقال.

مهما كان شعوري بالنكبةِ عميقاً فلن يساويَ شعورَ من عاشَها ورأى بأمِّ عينيه كيفَ يتحوَّلُ الوطنُ إلى خيمة، وكيفَ يبكي وجهُ السماءِ الضحوك

تنجحُ خُطَّتُهم.. وهنا.. سأذكرُ المشهدَ بالحوارِ البسيطِ العميقِ الذي احتواه.. يعودُ مسعودٌ إلى أهلهِ بكيسِ برتقالٍ وابتسامةِ انتصار، ولا أحدَ يدري بحقيقةِ الأمر ألا شقيقُهُ عليّاً، فتجتمعُ الأسرةُ الكبيرةُ لتناولِ حباتِ البرتقال كاجتماعها على وجبةٍ دسمة، وخلال ذلك.. يسألُ مسعودٌ والدَه.. كيف شايف هالبرتكان يابا؟، البرتكان: (البرتقال).. فيجيبُ الوالدُ بصوتٍ أنهكتهُ النكبة.. مليح، بس وين هاظ البرتكان من برتكان البلاد، اللي الحبة بتبكى ريحتها تفحفح من دار الجيران، بتبكى: (تكون).

جوابُ الوالدِ هو من أثارَ هذا التساؤل، هو يأكلُ ذاتَ البرتقال، إنَّهُ برتقالُ الحقلِ والذكريات، هو نفسه (برتكان البلاد).. ولكنَّ الطعمَ والرائحة لم يلامسا ذاكرةَ العجوزِ المنكوب.. وهنا أطلَّ السؤال وحضرَ بقوةٍ في مساحةِ الحيرةِ التي باتت تشغلُ جزءاً كبيراً من دماغي، هل هِيَ ذاكرةُ المكان؟ الذاكرةُ الجديدةُ التي لا مكانَ فيها إلا لرائحةِ الشقاء!، أم أنَّهُ مكانُ الذاكرة؟.. وهو الوطن.. بقِيَتْ تمكثُ فيه فأنسَتْ العجوزَ ما حولَه! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.