شعار قسم مدونات

الإمام الشافعي.. قاصف جباه السفهاء

blogs الإمام الشافعي

سنأنسُ هنا بصحبه الشافعي الشاعر، والذي لا يقل تأثيرًا وثباتًا بوجه الزمن عن الشافعي الفقيه الأصولي الرحَّالة. وفي أيامنا التعِسات هذه التي تكاد تشعرنا بأن قنبلة نووية من السَّفَة قد انفجرت، ونثرت إشعاعات السفاهة والجهل حتى طالت الجميع، فأصبحنا نتجرع فيها السَّفَه صباحَ مساء، ويقصفنا السفهاء فيها بجهالاتهم من أمامنا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا، في الشوارع، والمدارس، والشاشات، والجامعات، و "السوشيال ميديا" …. الخ، ما أحوجنا أن نتواصى ببعض قطع الشعر الخالدات التي أثخن فيها الشافعي في الجهلاء والسفهاء منذ ما يقارب ألفية وربع من الزمن! 

ولأنني أرى ما أبدعته قريحة الشافعي في هذا المقام يصلح لما فات ولما هو آت، ويمكن استخدامه إفهامًا وإفحامًا في الحاضر كما في الماضي، فلم أجد غضاضة في أن أصف الشافعي في العنوان بواحدٍ من أحدث التعبيرات الشبابية الرائجة فيسبوكيًا!.. والذي أراه بليغًا في مقام التعبير عن هزيمة الخصم بالقاضية. فمن يتمكن من إيصال قذائفه المادية والمعنوية إلى أعلى جزء في صدارة رأسك – وعاء عقلك وكينونتك – قد هزمك لاشك، ومزق شباكك بالهدف الذهبي الذي لا راد له.

والآن.. لنتسلى مع السفهاء قليلًا ..

بعض السفهاء قد لا يستسلم أمام صمتك الرفيع مبكرًا، خصوصًا وأن طاقة السفاهة لدى أكثرهم لا تفني، ولبعضهم القدرة على استحداثها من العدم

لا يتفنن السفهاء في إضاعة وقتك فقط، إنما أيضًا يبدعون في شحنك حتى الثمالة بالانفعالات غير المفيدة، وبطاقة سلبية (لا إجابة ليها) بتعبير إحداهن التي أخذت مساحة متضخمة من الاهتمام منذ فترة!. ولذا يدعوك الشافعي بأن ترد كيدَهُم في نحرهم، وتقلب الطاولة على رؤوسهم. وعماد هذا ألا تبدأ معهم متوالية الرد. فخيرُ دوائهم السكوت. وإن نطقت.. فيغنيك ابتسامَةٌ واثقة صابرة باردة.. وكلما زادوا في السفاهة ردًا على صبرك وبرود أعصابك، زِد أنتَ قطر دائرة ابتسامتك حتى تملأ وجهك من الأذن إلى الأذن. أوصِل لهم الإحساس بأن حواسك لا تملك مستقبلات عصبية للتفاعل مع ما يقولون ويفعلون. أو أشعِرْهُمْ أن عندك مصانع خاصة تتسلَّم شحنات السفاهة الخام، وتقلبها إلى مركبٍ مختلف جديد قوامه الصبر والرضا.. بل والسرور. 

يخاطبني السفيهُ بكلِّ عيبٍ ـــــ فأكرهُ أن أكونَ لهُ مُجيبا
يزيدُ سفاهةً فأزيدُ حِلْمًا ـــــ كعودٍ زادَهُ الإحراقُ طيبا !

رغم كل ما فعلت، فبعضهم قد لا يستسلم أمام صمتك الرفيع مبكرًا، خصوصًا وأن طاقة السفاهة لدى أكثرهم لا تفني، ولبعضهم القدرة على استحداثها من العدم. ولذا يكرر الشافعي نصيحته لك مجددًا.. لا ترد عليهم مطلقًا بأسلوبهم، حتى لو كنت سترد صاع السفاهة بصاعيْن من الجهالة، فهذا غاية ما يريدون. بعضهم يعرف أنه سفيه، ويرتكب سفاهته مع سبق الإصرار والترصد، وهؤلاء خطيرون. فهم يمزجون سفاهتهم بالغيرة السفيهة. إذ يعرفون أنك تتميز عنهم لكونك لست سفيهًا كحالهم، ولذا سيبذلون قصارى جهدهم أن ترد عليهم بطريقتهم.. فإن هزمتهم بأسلوبهم خسرت مرة، وإن هزموك بعد أن دنسوك بها، كانت الخسارة اثنتيْن. اصمتْ عنهم واترك السفاهة تحرق ذاتهم وتأكل أمعاءهم .. 

إذا نطقَ السفيهُ فلا تُجِبْهُ ـــــ فخيرٌ من إجابتِهِ السكوتُ
فإن كلَّمْتَهُ فرَّجْتَ عنــْهُ ـــــ وإن خلَّيْتَهُ كمدًا يموتُ !
 

سيعاتبك الآخرون كذلك على صمتك الطويل، خاصة عندما يتمادى بعض السفهاء العنيدين في غيِّ السفاهة. ومن معاتبيك بعضُ المخلصين ممن يغارون على كرامتك، ويريدون لك أن تثأر لنفسك ولهم من هؤلاء السفهاء

وأصعب مراحل الصبر على السفهاء عندما تراجعُك نفسُك في سكوتك عنهم، وتريد أن تقنع عقلك بأن يسمح لك برد السفاهة بالسفاهة، حتى لا يفسر السفهاء سكوتك عنهم بأنه عجز عن الرد. أو يظن المراقب عن بعد أنهم قد ألقموكَ الحجة، فقطعوا عليك طريق الرد. دعك من كل هذا، إنما هو من الجانب الأمّار بالسوء في نفسك. كن واثق الخطوة فيما تفعل، معتزًا بكبريائك، معتقدًا يقينًا بقوة موقفك، وبأن كرامتك مضادة للرصاص والسفاهة. بحرك هادر وعميق.. لن يكدر صفوه بعض القاذورات التي تذروها الريح عليه.

أعرِضْ عن الجاهلِ السّفيهْ ــــــ فكلُّ ما قال فهو فيه
ما ضرّ بحرَ الفراتِ يومًا ــــــ أن خاضَ بعضُ الكلابِ فيهْ !
 

سيعاتبك الآخرون كذلك على صمتك الطويل، خاصة عندما يتمادى بعض السفهاء العنيدين في غيِّ السفاهة. ومن معاتبيك بعضُ المخلصين ممن يغارون على كرامتك، ويريدون لك أن تثأر لنفسك ولهم من هؤلاء السفهاء. أخبِر هؤلاء بمنتهى الثبات أن أبلغ الردود، وأكثر ردود الأفعال فعالية هو صمت القادر. فتبادل إطلاق نيران السفاهة، يؤذي النبيل حتى إن كان هو المنتصر، إذ يساوى بين الرؤوس على خط النار. الصمت وحده سيرد سهامهم عليه، ويعكس اتجاه قذائفهم لتستقر في منتصف جباههم! ثم اختم جدالك معهم بالتي هي أحسن بهذه الثلاثية قوية الحجة، شديدة اللهجة، التي يُغلق بها الشافعي باب الاجتهاد أمام يريدون التنظير لرد السفاهة بمثلها، ويُجهِز بها تمامًا على جباه السفهاء …

قالوا سكتَّ وقد خوصِمْتَ قلتُ لهم ـــــ إن الجوابَ لبابِ الشرِّ مفتاحُ
والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ ـــــ وفيهِ أيضًا لصونِ العِرضِ إصلاحُ
أما ترى الأُسْدَ تُخشى وهيَ صامتَةٌ ـــــ والكلبُ يخسى لَعَمْري وهو نبَّـــاحُ !!

 

رحم الله الشافعي، ونفعنا بديوانه وعلمه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.