شعار قسم مدونات

عندما يصهر منطق السوق قيم رمضان الصلبة

blogs سوق التمور

في عالم متغير تطبعه حركية دؤوبة في خضم الصراع اليومي للإنسان بمختلف أشكاله ومراتبه الاجتماعية مع لقمة العيش غالبا ما يجد المرء مع كل يوم جديد أحدات سريعة متداخلة وعلاقات متشعبة وارتباطات شتى ومشاغل كثيرة ربما أصبحت هي الطابع الأبرز لنمط العيش في المدينة الحديثة.

 

أمام كل هذه المعمعة وهذه الفوضى المنظمة في نسق عيش يومي قوامه ملئ كل ما يمكن ملئه من الأوقات بمشاغل إضافية بالشكل الذي لا يبقى فيها للفرد وقت ينفلت فيها من قبضة وحش "المعيش اليومي" من أجل أن يحظى بلحظة إنسانية، يتأمل فيها نمط عيشه ويحاول أن يتأكد من أن بساط القيم الصلبة والأساسية التي يتأسس عليه وجوده لازال تحت أقدامه ولا يتم سحبه من تحته على حين غرة من وعيه الغارق في متاهات الحياة، التي تأسر صاحبها وتجعله عاجزا عن أخد أي مسافة نقدية تحليلية لما يقع له وحوله من أجل وعي طبيعة تلك التحولات الصامتة التي تذيب صلابة القيم وتطمس جوهرها في مقابل إذكاء قيم أخرى دخيلة سائلة براقة تمتح من مرجعيات سوقية وتجد السند من بنى السوق والاستهلاك والنزعة الفردانية الأنانية التي همها الإشباع والخلاص الفردي واللذة والشهوة .

فرمضان مثلا كموسم من المواسم التي تحظى بقداسة خاصة نظراً لقيمة وحجم وصلابة المعاني والغايات التي يحملها في المجتمع التي تنطلق من فلسفة ومرجعية سامية أخلاقية عالية جدا مرتبطة بنشر قيم التكافل والعدالة الاجتماعية الحقيقة من خلال تعميم ذاك الشعور بالجوع الذي كل مكونات المجتمع وطبقاته بالشكل الذي يجعلهم كلهم مستشعرين لطبيعته وهذا ما له في العمق أثر بالغ في التأليف والتراحم بين أبناء المجتمع الواحد وكسر جميع أشكال التميز بدءا في المستوى الأول والأساسي من حاجيات الإنسان وهي الحاجيات البيولوجية ومنها الغداء حسب التصنيف الهرمي المشهور لعالم النفس " ABRAHAM MASAOW " .

 

ما أصبحنا نلاحظه من تغيرات جذرية في طبيعة القيم التي يرتبط بها شهر رمضان العظيم، الذي يبدوا أن آليات السوق بقواتها المسلحة الاستهلاكية التي تسخر بوارجها الحربية الإعلامية قد استطاعت نسف كل أشكال المقاومة التي يمتلكها الإنسان أمام الإغراءات الاستهلاكية

رمضان كذلك هو من المواسم التي تبتغي تهذيب البعد الاستهلاكي في النفس الإنسانية الذي يتطور ويطغى حتى يصل إلى مستويات يمارس فيها سلطة حقيقية على الإنسان. حيث يصل إلى مراحل يفقد فيها إرادته الحقيقة في الاختيار ويصبح عاجز عن كبح جماح نفسه الاستهلاكية. رمضان هو ذاك الشهر الذي يستغني فيه الإنسان عن المادة لصالح الروح عن الطعام والشراب والنكاح كخصائص يشترك فيها مع باقي الحيوانات لأجل البحث في جوهره الحقيقي المتعلق بالجانب الروحي الما فوق مادي، فالإنسان ليس إنسان إلا بتجاوز البعد الحيواني فيه بحثا عن الأسرار الحقيقية والعميقة التي تجعل منه إنسان بالمعنى العميق للإنسانية ورمضان بهذا المعنى هو من المناسبات الرئيسية التي يكتشف فيها الإنسان قيمته الحقيقية.

لكن الغريب والمفارقة الخطيرة هو ما أصبحنا نلاحظه من تغيرات جذرية في طبيعة القيم التي يرتبط بها هذا الشهر العظيم، الذي يبدوا أن آليات السوق بقواتها المسلحة الاستهلاكية التي تسخر بوارجها الحربية الإعلامية قد استطاعت نسف كل أشكال المقاومة التي يمتلكها الإنسان أمام الإغراءات الكثيرة التي جعلت الاستهلاك والشراء المستمر هدفا أساسيا تسخر له كل الإمكانيات.

 

وأصبحت الشركات الكبرى تركز في استراتيجياتها التدبيرية على قسم التسويق (Marketing) كقسم مركزي تنبني عليه كل خطط وبرامج كبريات الشركات وتسخر له إمكانيات هائلة هدفها الوحيد هو دراسة كل العادات الاستهلاكية والتعمق في تفكيك سيكولوجية الإنسان بالشكل الذي تتمكن فيه هذه الشركات والماركات من تحطيم حصونه الدفاعية أمام التدفق المهول لكميات متزايدة من المنتجات التي تغزو كل الأسواق وتتجاوز كل الحدود .

لقد بات من المؤكد أن منطق السوق قد اختراق القيم الصلبة التي يتأسس عليها رمضان فكيف يمكن تفسير المعدلات الكبيرة في الاستهلاك في هذا الشهر بالمقارنة مع الأشهر العادية في السنة ونجد تفسيرا للإقبال الكبير على الأسواق والازدحام الكبير أمام محلات المأكولات الغذائية والمشروبات وكل ما لذ وطاب وذاك بإسراف كبير وتبذير باذخ في تناقض محرق مع مقاصد وغايات وقيم شهر رمضان المرتبطة بالاقتصاد المادي والارتقاء الروحي والانفلات المعنوي من اللذة والشهوة بحثا عن المعنى والجوهر.

 

يجد الانسان نفسه فردا وحيدا أمام آليات السوق والاقتصاد المتغولة وأدوات الإعلام والإثارة ووسائل التحكم والسيطرة، فيفقد المعنى وتتفكك هويته الثقافية والجماعية وتنسف خصوصياته وتفترس لغته وتسرق أحلامه، لتصبح طموحاته وتطلعاته محكومة بقيم ورؤى مجتمع آخر

يلاحظ بشكل كبير أيضا ظاهرة إعداد كميات كبيرة من الأطعمة وتخزينها ثم انتظار لحظة الفرج المتمثلة في أذان المغرب في تعامل سطحي مع الزمن في هذا الشهر الذي يقضي فيه الإنسان أغلب أوقاته في النوم والاستلقاء والانشغال بكل الأساليب التي تمكنه من قتل وإبادة الوقت أكل طعام قد تم إعداده من قبل، يأكله المرء وهو يسير أو يجري كظاهرة جديدة على الجنس البشري، ولا بد أن نتنبه إلى الرؤية الكامنة وراءها، فهي حسب د. عبد الوهاب المسيري رؤية تعتمد السرعة والحركة في الحيز المادي مقياسا وحيدا، وهي بذلك تحوِّل الإنسان إلى كائن نمطي يشبه الآلة لا يستطيع تذوق الأبعاد المعنوية الروحية الكامنة في الظواهر والمناسبات حينها فقط يكون السوق قد فعل فعلته وأسال كل القيم الصلبة .

إن الخطورة الكبرى تتمثل في القيم المرجعية النهائية التي تؤطر فلسفة السوق والتي تحمل في العمق نزوع عدوانية ضد القيم الإيجابية والتقاليد النافعة والأبعاد التراحمية التي يحملها المجتمع التقليدي، فيجد الانسان نفسه فردا وحيدا أمام آليات السوق والاقتصاد المتغولة وأدوات الإعلام والإثارة ووسائل التحكم والسيطرة، فيفقد المعنى وتتفكك هويته الثقافية والجماعية وتنسف خصوصياته وتفترس لغته وتسرق أحلامه، لتصبح طموحاته وتطلعاته محكومة بقيم ورؤى مجتمع آخر، فتكون النتيجة حالة اغتراب يعيشها الإنسان المسلم المعاصر، تحول معها مظاهر حياته وقيمه وشبكة علاقاته وبنياته الاجتماعية والثقافية إلى حالة تيه وعجز عن المقاومة تبرز في سلوكياته الاجتماعية وحركته ورؤيته الحضارية وخريطته الإدراكية.

 

فيصير الإنسان في أبعاده المركبة وأسراره العميقة وتطلعاته الثورية عبارة عن كائن اقتصادي مستهلك لا يحمل أية قضية أو رسالة أو مرجعية، فهو مادة استعمالية خادمة للقوى العولمية وللشركات العالمية، وقابل للتوظيف الإعلامي والثقافي والاقتصادي والسياسي بهدف تعظيم الربح واللذة تصل حالة من الاستصنام إزاء الاستهلاك ثقافيا، الذي يتحول إلى وسيلة للإغواء والإغراء بالاستهلاك إلى قيمة مطلقة، تريد تحقيق الربح على حساب الحاجة الحقيقية للإنسان، وعلى حساب إنسانية الإنسان، فكأنما صارت إله العصر الذي يعبد من دون الله، أو كما يعبر عنها روجي غارودي (Roger Garaudy) بألوهية السوق حسب تعبير غارودي، في كتابه "حفارو القبور" الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها نحو ولادة نوع جديد من البشر، الإنسان المبرمج ويعني هؤلاء الذين يشبهون العقول البشرية بالكمبيوتر، متناسيين أن خاصية الإنسان هي طرح الأسئلة النهائية، وقبلها أسئلة لماذا وما الأهداف النهائية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.