شعار قسم مدونات

السيرذاتية في الأدب الأفغاني المعاصر (1)

blogs كتب

إن البحث عن الدوافع النفسية التي تحث الكاتب على النبش في أعماق الذات من أجل الكتابة، دفعتنا إلى مقارنة مجموعة من الأعمال الأدبية الأفغانية. وقد توصّلنا إلى أن أهم هذه الدوافع مرور الذات الكاتبة بتجربة نفسية قريبة جدا من زمن الكتابة فتلتجئ وهي في أوج وقع التجربة إلى التخييل الروائي لرسم تجربتها، والبحث عن علاج لهذه الأزمة التي تصاحبها أزمات أخرى ذات الطابع الاجتماعي والسيكولوجي.

 

فالكاتب الأفغاني يحاول إخراج وقع هذه الأزمة من أعماقه وعكسها في مرايا الشخصيات المتخيّلة. وقد تبين لنا من خلال المقارنة بين بعض الشخصيات وحياة الكتّاب، أن هناك تقاطع بين مصير الشخصيات المتخيّلة وحالة الكاتب النفسية. إن الهدف من كتابة الرواية السيرذاتية في الأدب الأفغاني المعاصر هو محاولة التحرر من كل القيود وخلق عالم متخيّل يكون بديلا عن العالم المعاش الملطخ بالدم والكراهية والذكريات السوداء التي تحاصر خيال الكاتب الجريح في منفى الوجود والعدم. 

ففي رواية "ألف منزل للحلم والرعب" تتخذ السيرذاتية فعل إنشاء العالم التخيلي وأزمة الذات في راهن الكتابة. إن هذا النص الأدبي ـ الشعري، عبارة عن مجموعة من الأشلاء أو ما يصطلح عليه في النقد الأدبي بـFragments، نص سهل القراءة وسلس اللغة، إلا أنه صعب التأويل والتحليل. إنه نص يجتمع فيه النثر والشعر والرعب والتصوف والحلم والموت. ومن هنا يحاول عتيق رحيمي بناء نص كأنه يكتب سيناريو فيلم مركزا على الأحداث دون التعمق كثيرا في الوصف.

 

أوصلتنا قراءة نصوص عتيق رحيمي وخالد حسيني إلى ثلاث مقاصد يمكن أن نُؤَوِّل بها الغايات النفسية التي رمى اليها مؤلفو الروايات السيرذاتية. وهذه المقاصد الثلاثة هي: الشهادة على العصر، لذة الاستذكار وورثاء الأحباب

فاللغة الشعرية المعتمدة تجعل القارئ لا يعير اهتماما للوصف باعتبارها لغة رمزية إيحائية تحمل في طياتها الكثير من الدلالات، وبالتالي فلا مكان للوصف. ثم إن الحلم كمفهوم سيكولوجي يلعب دورا رئيسيا في البعد التأويلي للرواية، فعن طريق الحلم، يعيد الكاتب رسم المشاهد الواقعية التي عاشها في طفولته على شكل أوهام وتمثلات خيالية. و"ألف منزل للحلم والرعب" ما هو إلا تمثل فني، يدفع القارئ إلى الغوص في أعماق الرواية، محاولا إيجاد روابط بين البنيات السطحية والبنيات العميقة التي يتشكل حولها هذا النص. وليس هناك أعمق من ذات الكاتب التي تتقمصها شخصية «فرهد». هذه الرواية، إذن، بمثابة سيرة ذاتية، لأن ما يجري فيها من أحداث يطابق ما عاشه رحيمي في طفولته؛ أي أن ذات الروائي في حالة اغتراب وعدم استقرار نتيجة ضغوطات العوالم الخارجية، خصوصا الحرب والموت والمنفى.

وتعد هذه الرواية من الأعمال التي تقربنا أكثر من حياة الكاتب الحقيقية عبر محاولة كشف القناع عن الواقع الأفغاني المعاش. فقراءة الرواية توحي بأن الكاتب في حالة من الاعتراف المتواصل. فالشخصية المتخيلة تستمد قوتها من حياة معاشة تظهر من خلال تقاطعها مع الكثير من البصمات المهمة التي طبعت وما تزال تطبع الحياة الشخصية للكاتب. 

لقد أوصلتنا قراءة نصوص عتيق رحيمي وخالد حسيني إلى ثلاث مقاصد يمكن أن نُؤَوِّل بها الغايات النفسية التي رمى اليها مؤلفو الروايات السيرذاتية والحاجات التي طلبوها من التخييل الروائي. وهذه المقاصد الثلاثة هي: الشهادة على العصر، لذة الاستذكار وورثاء الأحباب والأشخاص. فمقصد الشهادة على العصر يظهر من خلال تقديم صور حية وواقعية عن العصر الذي ينتمي إليه الكاتب (الحقبة المعاصرة) وذلك من خلال الإدلاء بشهاداته الخاصة عما شاهده وعاشه من حرب ودم ووقائع اجتماعية كارثية.

ويصنف الكثير من النقاد على أن هذا المقصد غريب عن الرواية السيرذاتية لضيق مساحتها الزمنية عادة، واتّصالها الشديد بذات الفرد وعوالمه العميقة والباطنية. ولكن مع ذلك وجدنا في الروايات الأفغانية، خاصة روايات عتيق رحيمي وخالد حسيني، أن الرواة يبثّون إشارات توحي بأن أصحاب هذه الروايات قد سعوا من كتابتها إلى تقديم شهاداتهم على العصر، فاتحين بذلك لنصوصهم التخيلية قنوات تصلها بالسيرة الذاتية.

 

روايات عتيق رحيمي، خاصة "حجر الصبر" و "ألف منزل للحلم والرعب" و "أرض ورماد" تكشف لنا القناع عن الواقع الدرامي الذي يعيشه الفرد الأفغاني في بلاد تكاد تختفي بين رماد الحرب وغبار الأراضي القاحلة

عندما نقرأ رواية "عدّاء الطائرة الورقية" لخالد حسيني التي صدرت بطبعة أولى مترجمة إلى اللغة العربية عام 2010 وروايته الثانية "ألف شمس مشرقة" التي صدرت هي الأخرى بطبعة أولى مترجمة إلى اللغة العربية عام 2010 أيضا، لابد أن نكون أمام خيار وحيد يدعونا لأن نعيد النظر في كل ما نعرفه عن أفغانستان، وخاصة حول الأدب الافغاني الذي حَجَبَه عنّا ضجيج الرصاص وصور الموت الدموية التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود، شاءت فيها قوى دولية كبرى ـ في المقدمة منها أميركا ــ أن يستمرَّ الصراع الدموي بين الأخوة على هذه الصورة البشعة، تعبيراً وتحقيقا ًلمصالحها، حتى لو كان الثمن أن يُدفَنَ شعب كامل تحت الأنقاض (أنظر مقال: الأدب الأفغاني وإشكالية التشويه الأمريكي). 

كما أن روايات عتيق رحيمي، خاصة "حجر الصبر" و "ألف منزل للحلم والرعب" و "أرض ورماد" تكشف لنا القناع عن الواقع الدرامي الذي يعيشه الفرد الأفغاني في بلاد تكاد تختفي بين رماد الحرب وغبار الأراضي القاحلة. وعلامة سعي الكاتب إلى الشهادة على العصر كثيرة سنتطرق إليها في الجزء الثاني من هذا المقال. فجل الروايات تستمد إطارها الزماني والمكاني والمرجعي من الأحداث المعاصرة التي شهدتها أفغانستان والتي تركت أثراً كبيراً على المجتمع بصفة عامة، والفرد بشكلٍ خاص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.