شعار قسم مدونات

الإحسان.. الفضيلة الغائبة

مدونات - الإحسان

يا طِيب عيْش مَن يُحِبّ، و يا أُنْس قلْب مَن يُحِبّ ويُحَبّ، ويا يُمْن سعْد مَن يَحلّ ضيفا على مائدة الحبّ الإلهي فيَضمن بها محبّة الخلْق أجمعين.. تلك المائدة التي استضاف فيها القرآن الكريم أصنافا مِن المؤمنين نعموا بحبّ الله لهم، فجلس في صدْرها المُقسِطون الذين عرّفهم (الطبري) في تفسيره بأنهم العادلون في أحكامهم والقاضون بين الخلْق بالقِسط، واحتلّ ميْمنتَها الصابرون والمتّقون والمتوكِّلون والمجاهدون، وجاء في ميْسرتها التوّابون والمُتطهِّرون والمُطَّهِرون الذين يتطهَّرون بدنيا ونفسيا وماليا وأخلاقيا، ثمّ كان المحسنون درّة تاجها ولَبِنة زاويتها؛ حيث تَأكَّد حُبُّهم وتَكرَّر في غيْر موضِع قرآني "إنّ الله يحبّ المُحسنين"، وكانوا في معيّة الله "وإنَّ الله لَمَع المُحسنين" وقريِبِين مِن رحمته "إنَّ رحمت الله قريبٌ من المحسنين" وموْعودِين ببرَكة منه وزيادة "وسنزيد المحسنين"، ولهذا جاء الأمْر بالإحسان جازما "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" "وأَحْسِنوا"، وكان النُّصح به واجبا "وأَحْسِن كما أحسَن الله إليك".
 

وإذا ذُكِر لفظ الإحسان، ذُكِر سِبطا رسول الله وريْحانتاه الحَسَن والحُسَيْن، وذُكِرت الحسَنةُ نقيض السيِّئة، وذُكِرت الحُسْنى وهي العاقِبة الحسَنة أي الجنّة دار السّلام، وذُكِر الحُسْنيَان وهما النصر والشَّهادة، كما ذُكر الحُسْن بمعنى الجمال الذي هو عيْن ماء الحياة…والإحسان في اللغة ضدّ الإساءة، وهو مصدر خُماسي مِن الفعل أَحْسن، ويَعني الإجادة والإتقان والإخلاص، وتتّسع دائرتُه لتشمل الأعمال الدنيويّة والدينيّة وتَضمّ العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات.
 

مَن يُؤدّي فوق ما عليه مِن واجب بغْية الإحسان والإتقان ويَقنع بأقلّ مِن حقّه راضيا مُسامِحا.. هذا هو المُحسن الذي يُؤسِّس لمجتمع الخيْر والرخاء، ويُقيم دولةَ البذل والعطاء، ويَشتري الحُبّ ويَخطب الودّ ويَستعبد القلوب.

فهو في العبادات أَحسَن الدِّين "ومَن أحْسن دينا مِمَّن أَسلمَ وجهَه لله وهو مُحسِن" وأعْلى المراتب بعد الإسلامِ الذي يُجسِّد أعمالَ الجوارح الظاهِرة والإيمانِ الذي يُمثِّل أعمالَ القلوب الباطنة، وأربابُه هم السابِقون المُقرَّبون، وفيه تُجوِّد وتُتقِن الإسلامَ والإيمانَ معا؛ فتَعبد اللهَ كأنك تراه أو كأنّه يراك كما ورد في الحديث الشريف الذي صنّف الإحسانَ إلى درجتيْن؛ درجة المُشاهَدة وفيها تعبد الله كأنك تراه وهي الأسمى والأعلى وتكون الرؤية قلبيّة وذهنيّة لا عيْنيّة وبها تصل إلى مقام العارِفين، ودرجة المُراقَبة وفيها تعبد الله وأنت تعلم وتشعر بأنه يراك وهي مقام المخلِصين، وفي كليْهما يتجلّى الخشوع والخضوع الذي يؤدّي إلى حضور الظاهر والباطن ويُثمر تمام العبادة وكمالها، كما يَستوي فيهما السرّ والجهر وتتطابق الخلوة مع الجلوة وتكون الاستقامة على أقوم نهْج وأصْلح طريق، إلّا أنّ الوصول لتلك المرتبة يتطلّب جهدا ومثابرة واستعانة وتَوكُّلا، وعندها ثِقْ بأنْ مَن أدام الطرْق فُتح له الباب ومَن جدّ في السعي وصل ولو بعد عناء ومَن زرع الحَبّ لا شكّ يَجني البُرّ.
 

أمَّا في المعاملات فإنَّ الإحسان يتعدّى الجُود بالدرهم والدينار على فقيرٍ جائع أو مسكينٍ بائس كما هو شائع ومعروف بين الناس، ففي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر إحسان، وفي قضاء حوائج الناس وتفريج كُرَبهم إحسان، وفي تعليم العِلم النافع إحسان، وفي تشييع الجنائز وعيادة المرضى إحسان، وفي إرشاد الضالّ والشفاعة بالجاه لردّ الحقوق إحسان، وفي الكلمة الطيبة والبسمة الرقيقة إحسان، وفي حُسن تبعّل المرأة لزوجها وتنشئة أطفالها إحسان، وقِس على ذلك كلّ كبيرة وصغيرة في مناحي الحياة، وهو ما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام (مسلم) في صحيحه عن (أبي يعلى شداد بن أوس) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله كتب الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيُحِدّ أحدكم شفرَته، ولْيُرِحْ ذبيحتَه"، والقتل والذبح هنا ليسا إلا مِثاليْن للتقريب والإفهام ومِن قَبِيل الجُزء الذي يُراد به الكلّ.
 

ولأنّ أجملَ الإحسان هو ما حلَّ محلَّه وأصاب موضعَه على حدِّ قول (المنفلوطي) في نظراته؛ فقد لزم التنويه على أنَّ مجال الإحسان لا يَقتصر على مَن أَحسن إلينا وأَسدى إلينا معروفا، بل هو أجْمل في حقّ مَن أساء إلينا وأخطأ في حقِّنا بناء على القاعدة القرآنية "ادْفع بالتي هي أحسن"، علاوة على أنّ الإحسان يكون للقريب والبعيد كما ورد في آية الحقوق العَشرة في سورة النّساء "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنُب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم"، هذا دون هضم أنفسنا وذواتنا حقَّها الأصيل في الإحسان بدنيّا ونفسيّا وعقليّا وروحيّا لتكتمل بها أبعاد الإحسان العموديّة(مع الله)والأفقيّة(مع سائر المخلوقات).
 

وفي هذا نجد أنّ النّاس في تعاملاتهم أصناف ثلاث، فمنهم مَن يأخذ حقَّه ويؤدّي واجبه دون زيادة أو نقصان وهذا هو المُقسط العادِل، ومِنهم مَن يحرص على أن يأخذ أكثر مِن حقّه بينما يسعى جاهدا للانتقاص مِن حقوق الآخَرين وهؤلاء هم المُطفّفون، ومِنهم مَن يُؤدّي فوق ما عليه مِن واجب بغْية الإحسان والإتقان ويَقنع بأقلّ مِن حقّه راضيا مُسامِحا.. وهذا هو المُحسن الذي يُؤسِّس لمجتمع الخيْر والرخاء، ويُقيم دولةَ البذل والعطاء، ويَشتري الحُبّ ويَخطب الودّ ويَستعبد القلوب على حدّ تعبير الشاعر (أبو الفتح البُستي) في قصيدته(عنوان الحكم)التي قال فيها:

"أحْسِن إلى النّاسِ تستعبد قلوبَهمُ *** لطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ"
 

مِن مواقف إحسانية راقية لأُناس عايَشوهم وشهدوا لهم بالإحسان: زوجة علّقَها زوجها إحدى وعشرين عاما قبل أن يُطلِّقها بمقابل ولكنّه عند وفاته حضرَتْ للتعزية وأَشْهدت الجميع أنها قد سامحتْه وعفَت عنه.

والحقيقة أنّ المدوّنة التاريخية لم تخْلُ يوما مِن أكابر المحسنين الذين تركوا بصمات مِن إحسان في محيطهم الأسري والاجتماعي والدوليّ والإنساني، تارة بالعِلْم والمال، وتارة بالجدّ والجاه ، وتارة بالأخلاق والسلوك؛ فسيدنا يوسف-عليه السلام- مِن أكابر المحسنين حيث أنقذ قومًا استرقّوه وسجنوه وأَحْسن إلى إخوةٍ ساؤوه في بدنه ونفسه وأهله، وسيدنا أبو بكر الصديق-رضي الله عنه- مِن أكابر المُحسنين حيث وضع حياتَه وما يَملك رهينةً في كفّ الصُّحْبة النبويّة ووديعةً في يَمين الإسلام، وسيدنا(الحُسيْن بن علي)-رضي الله عنه-مِن أكابر المحسنين حيث حقن الدماء وأَصْلح بين المتخاصِمين وتَنازل عن حقّه في خلافة المسلِمين، والإمام (البخاري) -رحمه الله- مِن أكابر المحسنين حيث أخذ على عاتقه تمحيص الحديث ونخْل الصحيح مِن الضعيف، والقائد(سيف الدين قطز) أيضا مِن أكابر المحسنين حيث دحَر التتار وحَمى بيضة الإسلام، وغيرهم كثير وكثير.
 

ومِن المدوّنة التاريخية إلى موقع التغريد الشهير(تويتر)؛ حيث أنقِل بعض ما سطَّره المغرِّدون تحت عنوان "محسنون عرفتهم" مِن مواقف إحسانية راقية لأُناس عايَشوهم وشهدوا لهم بالإحسان؛ فهذا تاجرٌ كان دائمَ الإحسان إلى عُمَّاله ولما تُوفِّي شيَّعوه بأسى وأسف ثمّ توجه خمسةٌ وعشرون منهم إلى الحرَم واعتمروا تطوُّعا عنه ليلْقى جزاء إحسانه إحسانات تُؤنسه في أول ليلة في قبره، وهذه زوجة علّقَها زوجها إحدى وعشرين عاما قبل أن يُطلِّقها بمقابل ولكنّه عند وفاته حضرَتْ للتعزية وأَشْهدت الجميع أنها قد سامحتْه وعفَت عنه، وهذا ثالثٌ دأب على جمع الأطفال المُصلِّين معه في المسجد عقب كلّ صلاة وإهدائهم بعضا مِن الحلوى فما كان منهم إلّا أن أحَبّوا صحبتَه وأصبحوا يَسبقونه إلى الصلاة.

وهكذا فإنّ صلاحَ البلادِ والعبادِ مُرتبط بفضيلة الإحسان ومُعلَّق برقاب المُحسنين، وبوسْع كلٍّ منّا، بل ومِن واجبنا جميعا أن نتلمّس طريقنا لنكون في تلك القافلة المبارَكة؛ خِدمة لأنفسنا وأوطاننا ودِيننا، وطاعة لله -ذي الفضل والإحسان- الذي خلَقنا في أحْسن تقويم وصوّرنا أحْسن تصوير…وفي ذلك فلْيتنافس المُتنافِسون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.