تأثر التاريخ الفكري العثماني بالكثير من العلماء الذي يعد الإمام "أبو حامد الغزالي" واحدًا من أبرزهم، إذ كانت البيئة العلمية والفكرية العثمانية مسرحًا لانتشار أفكاره منذ القرن الخامس عشر. وتبرز أهمية أعمال الغزالي ومدى اهتمام العثمانيين به وبمؤلفاته من خلال الكم الهائل من مخطوطات أعماله الموجودة في مكتبات الأناضول، عدا عن ترجمتهم لكتبه للتركية العثمانية وكذلك التعليقات والشروحات الكثيرة التي وضعت عليها.
ومع ظهور حركات التجديد في نهايات القرن التاسع عشر اعتمد العديد من المفكرين العثمانيين على أفكار الغزالي مثل "إسماعيل حقي الإزميري" (1869-1946) و"محمد علي عيني" (1865-1945) و"محمد حمدي يازر" (1878-1942) إذ اعتبروا مؤلفاته من مصادر تجديد الفكر الإسلامي وبخاصة كتابه الهام "إحياء علوم الدين" الذي أشاروا إليه كثيرا أثناء جهودهم لتجديد العقائد والفلسفات الإسلامية.
مثَّل كتاب "إحياء علوم الدين" نقطة التقاء مركزية لكل مهتم بمنهج الغزالي في الأمور الأخلاقية والصوفية والعقدية والفلسفية في التاريخ العثماني مما دفع ببعض العلماء العثمانيين الكبار مثل "كاتب جلبي" أن يقول بأنه لو اختفت جميع الكتب الإسلامية وبقي الإحياء لكفى.
لاقى إحياء علوم الدين ترجمات عثمانية كان من أشهرها الترجمة التي قام بها شيخ الإسلام "بستان زاده محمد أفندي" تحت عنوان "ينابيع اليقين في إحياء علوم الدين" وتم إهداؤها للسلطان "أحمد الأول" ووضح فيها شيخ الإسلام أهمية ترجمة الإحياء لموسوعيته وشموله واحتوائه على مجموعات كبيرة ومفيدة من العلوم التي يفتقر إليها أي كتاب آخر.
في القرن التاسع عشر قام "يوسف أحمد صدقي" جد عالم الاجتماع البارز "شريف ماردين" بترجمة كاملة للإحياء إلى التركية العثمانية في 9 مجلدات كبيرة قدمها إلى السلطان عبد الحميد الثاني عام 1869، لكنها لم تطبع أبدا. |
كما قام العالم الموسوعي "طاشكُبرو زاده" في القرن السادس عشر بإضافة جزء طويل عن الأخلاق في الجزء الثاني من موسوعته "مفتاح السعادة ومصباح السيادة" والتي تأثر بتقسيمها "بالإحياء" كما اختصر أجزاء من الإحياء في هذه الموسوعة، وكان يستخدم عبارات الغزالي نفسها من حين لآخر مع بعض التعديلات.
ولقد تأثر "محمد أفندي البركوي" في كتابه " الطريقة المحمدية في السيرة الأحمدية" والذي حاز على شهرة واسعة في المجتمعات العثمانية بالإحياء، إذ أن كتابه أشبه ما يكون بتلخيص للإحياء خاصة في الجوانب الأخلاقية مع اقتباسه لكثير من مصطلحات الإحياء، إلا أن ما يُفرق بين الغزالي والبركوي هو موقف كل واحد منهم من التصوف والطرق الصوفية والبدع.
وفي القرن التاسع عشر قام "يوسف أحمد صدقي" (ت 1903) جد عالم الاجتماع البارز "شريف ماردين" بترجمة كاملة للإحياء إلى التركية العثمانية في 9 مجلدات كبيرة قدمها إلى السلطان عبد الحميد الثاني عام 1869، لكنها لم تطبع أبدا.
أما عن كتب الغزالي الأخرى التي حازت على اهتمام مجتمع العلم العثماني فنجد كتاب "كيمياء السعادة" الذي حصل على ترجمات للتركية العثمانية إحداها في القرن السادس عشر وهي لـ "سهاي حسام الدين بن حسين" الذي قدمها للسلطان "سليمان القانوني" والآخر للمترجم "نرجبسي زاده محمد البوسنوي" في عهد السلطان مراد الرابع في القرن السابع عشر.
وعن كتبه الفلسفية فقد وضع "كمال باشا زاده" و"الكاراباغجي" في القرن السادس عشر و"علاء الدين الطوسي" في القرن الرابع عشر تعليقات على "تهافت الفلاسفة" كما تم ترجمة كتاب "أيها الولد" بواسطة رجل الدولة المؤرخ مصطفى عالي (ت1600).
منتقدي الغزالي
وعلى الرغم من موقع الغزالي إلا أنه لم يَسلم من منتقديه، إذ تعرض لانتقادات من شخصيات عثمانية عاصرت نهاية الدولة وبداية الجمهورية، فلو نظرنا في الصحف والكتب في تلك الفترة نرى أن الغزالي وأفكاره مثلت محور نقاش بين طرفين، فهناك من نظر للرجل على أنه مدمر للثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي مثل الصحفي "جلال نوري" (ت 1938)، و"محمد شمس الدين كُنالطاي" أستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية بجامعة إسطنبول في العهد العثماني والسياسي البارز في العهد الجمهوري، فقد ذكر في كتابه " الفلسفة الأولى" أن الحركة الفلسفية الإسلامية التي بدأت مع "الكندي" ووصلت لذروتها مع "ابن سينا" قد تعرضت لضربات قاسية بواسطة الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" مما أدى إلى فُقدان النظريات التي وضعت بواسطة المعتزلة لقيمتها بعد ذلك، وظهرت بعد الغزالي نظريات صوفية بديلا عنها .
كما قام كُنالطاي بتوجيه نقد آخر للغزالي بسبب قيام الأخير بنقد لفلسفة "ابن سينا" و"الفارابي"وهو بذلك مطفئ لشمعة الفكر الفلسفي من بعده كما يقول كُنالطاي وأنه كان ضد العلوم في مقابل وقوفه مع الفكر الديني واللامنطقية والتصوف، كما كان الرائد في تحويل العقيدة "الماتُريدية" في المدارس العثمانية في إسطنبول والمدن المحيطة بها إلى المذهب الأشعري حتى نهاية عمر الدولة.
المدافعين عن الغزالي
العالم "أحمد حمدي الاكسكلي" دافع عن منهج الغزالي في التصوف بشكل خاص، وقام في سلسلة من المقالات في مجلة "المحفل" بعرض مكانة التصوف وعلاقته بالروح، وأوضح اختلاف طرق التصوف عن طرق علماء الكلام والفلاسفة في إثبات قضية الروح |
وعلى الجانب الآخر نجد مجموعة من المفكرين الذين أشادوا بالغزالي وفكره في مقابل ما يوجه إليه من نقد، مثل السياسي المفكر العثماني وأحد أعضاء حركة "العثمانيون الشباب" "علي صوافي" (ت 1878) الذي كتب مجموعة من المقالات في "مجلة العلوم" يدافع فيها عن الغزالي وأفكاره تحت عنوان: "الرد على من رد على الغزالي" موضحًا مكانة مؤلفات الرجل باللغات الأوروبية وما يبذل من أجل ترجمتها لهذه اللغات كما أوضح أن النقد الذي يتعرض له هو نتاج النقد الاستشراقي الذي أخطأ في فهم كتاب التهافت وانحاز إلى ابن رشد.
كما وضح "علي صوافي" الأسباب التي أدت بالغزالي إلى رفض أراء الفلاسفة المسلمين في المسائل الميتافيزيقية وأنه قَبل الآراء الفلسفية المنطقية البرهانية، لذا فنقده لجانب عدم التسليم بالبراهين الميتافيزيقية التي طرحها فلاسفة المسلمين لا تعني أنه سبب في تأخر الحركة الفلسفية وتراجعها، كما اعتبر ابن رشد فيلسوفا أكثر قربًا من العالم الغربي عن العالم الإسلامي.
أما العالم "أحمد حمدي الاكسكلي" (ت 1951) فقد دافع عن منهج الغزالي في التصوف بشكل خاص، وقام في سلسلة من المقالات في مجلة "المحفل" بعرض مكانة التصوف وعلاقته بالروح، وقد أوضح اختلاف طرق التصوف عن طرق علماء الكلام والفلاسفة في إثبات قضية مثل قضية الروح، وأوضح أن الغزالي قدم رؤيته بناء على آيات القرآن.
ومن الشخصيات التي دافعت عن الغزالي "محمد علي عيني" (ت 1945) الأستاذ بجامعة إسطنبول حيث قام بترجمة دراسات المستشرق الفرنسي "كارا دو فو" عن الغزالي المنشورة في "باريس" عام 1902 للتركية العثمانية، وقد حاول أن يوضح أن الغزالي لم يكن يرفض النظام الفلسفي بالكلية بل له نظرات تخص جوانب معينة منه.
كذلك من المدافعين عن الغزالي شيخ الإسلام في الدولة العثمانية والمفكر المصلح "موسى الكاظم" (ت 1920) الذي تناول بعض جوانب كتاب "تهافت الفلاسفة" في مجموعة مقالات وقام بجمعهم لاحقًا في كتاب له،إذ قام فيها بتوضيح آراء الغزالي وابن رشد وأنه من الممكن الجمع بينهما في حرص خاصة في الجوانب المتعلقة بالوجود الإلهي، وأن الثغرة الكبيرة الواقعة بينهما تكمن في الجانب الوجودي أو الأنطولوجي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.