فلا معنى حينئذٍ للقول بأن الأفول الحضاري هو عقوبة ربانية سببها عصيان الأوامر الإلهية، إن ابتعاد الأمة عن الدين لم يكن سوى نتيجة منطقية لخفوت نور العقل الذي به يعرف الدين الحق.
انفصل الفكر الإسلامي عن الفلسفة بتلك الحركة الرمزية المتمثلة في إحراق كتب ابن رشد على يد الخليفة الأندلسي المنصور في حدود سنة 1190 م. بينما تلقفها الأوروبيون واعتمدوها في إصلاحهم الفكري والديني. |
فمنذ لحظة التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى شرع المسلمون في الاجتهاد، وكان اعتمادهم على ركيزتين رئيسيتين هما النقل والعقل، ولم يكن العلماء والخلفاء يجدون غضاضة في إنتاج الأفكار الجديدة معتمدين على فهم النصوص المنقولة أحيانا وعلى الأقيسة العقلية أحيانا أخرى.
حتى جاء عصرٌ شهدت فيه الأمة حرباً ظالمة على العقل، وأعلن عن غلق باب الاجتهاد بدعوى حماية الدين! ومنذ ذلك الحين صار التقليد فضيلة بل فريضة، عند البعض، وتحكمت المرويات من النصوص والأقوال المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة في الاستدلال الديني والفقهي.
ومنذ ذلك الحين أزيح العقل عن الريادة في المجال الفقهي وغاب التمييز بين العلم والخرافة فدخلت الأمة في غياهب الانحطاط. وكان من أبرز نتائج تعطيل العقل انتقال القيادة من أيدي الفقهاء إلى أيدي الوعاظ، فصار التأثير الأكبر في المجتمع ليس للأفكار بل للخطب و المواعظ، وحلت الإثارة محل التعقل، والوجدان محل التفكر.
وكان من النتائج أيضا أفول عصر الفلاسفة العظام، وتقرر في الذهن الإسلامي أن الفلسفة عدو للدين، فتم إقصاء تدريس الفلسفة في أهم المحاضر العلمية التي تصنع العلماء و الدعاة، وانفصل الفكر الإسلامي عن الفلسفة بتلك الحركة الرمزية المتمثلة في إحراق كتب ابن رشد على يد الخليفة الأندلسي المنصور في حدود سنة 1190 م.
ومن الأعاجيب أنه في تلك الفترة بالذات تلقف الأوروبيون كتب ابن رشد واعتمدوها في إصلاحهم الفكري والديني، وكأنها لحظة فارقة في قصة الحضارة أرّخت للانتقال الحضاري من أمة إلى أمة.
هكذا بدأ الانحطاط وهكذا تستمر زاويته في الانفراج، وما لم يتم تصحيح هذا الخطأ التاريخي فلن تتحرك عجلة التحضر عند المسلمين من جديد. فمهما شهد حاضرنا من انتفاضات ونهضات فإنها تظل عاجزة عن إنتاج بعث جديد يروي ظمأ العالم إلى حضارة ترحم الإنسان..