يسبقنا الفؤاد إلى حيث كان مسقط رأسه وليدًا، ويحدونا الشوق إلى حيث وارى التراب جسده شابًا شديدًا، وفي أروقة المنصورة وأزقتها روح المجاهدين وبأس المرابطين، عليها انكسرت شوكة حروب الصليب وفيها أسر لويس التاسع بدار ابن لقمان. رأيت الفتى هنالك في عيون الناس، وكأن روحه لم تفارقهم، أو أن جسده لم يحملوه يومًا إلى الجانب الآخر من الجدول.
إن البشر كالجبال، منها الشامخ المطلع على بطون الأودية وآفاق البحار، ومنها ما بلغت قمته قمة أواسط الشجر، والناس في ذلك متفاوتون كلٌ على قدر بصيرته. كان فارسنا كالطود تحيطه سحب المهابة، مداده الصدق وصحائفه النقاء، يُنبِئ بالكلمات القلائل ما تعجز عنه أمهات الكتب، ويسرد من نظرته للحياة ما يذهل له الشيخ الحكيم، لم يُغمَد قلمُه يومًا حين أغمدت الأقلام، ولم يسكت لسانه عن الحق حين بعثرت قبور الباطل وحشر له الجنود، بل كان في طليعة الصفوف ثابت الجأش صارم الخطا، يستحث المخلفين ويبعث الهمة في نفوسٍ شارفت القعود.
كان على يقينٍ أنه سيصل يومًا ما، نعم يعلم أنه سيصل وهو الذي بلغ من بقاء الأثر ورسوخ الفكرة المحفورة في نفوس الناس -من قبل أن تُخَط في كتابه الفارس- ما لم يبلغه غيرُه، ثم هو يغادر الدنيا مفردًا وحيدًا. |
"أذهلني كعادته.. خطا إليَّ برفق ورفع عصاه بهدوءٍ حتى أنزلها على جبيني ثم قال: يا فتى! مثلما وجب علينا أن نجدد نوايانا كثيرًا عند طلب الشهادة مخافة الرياء، فكذلك الحال عند الألم، هناك من يتألم لله صدقًا، وهناك من يتألم حقيقةً ولكنه بآلامه يرائي. يا فتى! اجعل لآلامك نصيبًا خالصًا بينك وبين ربك، ولا تجعل شيئًا يفسد عليك ألمك. يا فتى! الألم في سبيل الله أحب إليه من ألف طاعة، أفلا يكون أجدر بالكتمان والمراجعة؟!".
هكذا كتب في إحدى خواطره، وهكذا كانت حياته نسخةً من تلك الخاطرة، فتىً في مقتبل الشباب، طالبٌ في كلية الهندسة بجامعة المنصورة ورئيس اتحاد طلابها، بلغ ما بلغ من كمال الإنسانية حين حمل هموم إخوانه، نبغ في العلم كما نبغ في الحق حتى سرى في عروقه طيف نهضة الأمة وتحرير الأقصى وغيرها من القضايا، تتعقبه قبضة النظام، لا يهاب بطشها ولا يتمناه، بل يسأل الله الشهادة مخلصًا صادقًا، وهل تجتمع على عبد قيود الأرض وهموم السماء! وهل في قبضة الله ما يكون من قبضة السلطان! رحمةٌ يقابلها العذاب، وحقٌ يناظره الباطل والسراب.
إن الألم في سبيل الله جميل، جميلٌ وإن لم يوافق باطنَه ظاهرُه، رحيمٌ وإن أظهر البأس قبل الشفقة، خفيفٌ وإن تراءى لأعيننا شديدًا ثقيلاً، شق ذلك بالفطرة على غيره لكنه ما صادف ثبات قلبه حتى خر صعِقًا، وهل ينكسر الألم إلا أمام قلبٍ صامدٍ؟! وهل تهون المحنة إلى على فؤادٍ معلقٍ بربها كان أول ما دعا أن يصنعه الله على عينه! وهل يبطل الله الباطل ويحق الحق إلا بأمثال تلك الأفئدة!
على أنه لم يذعن لمحنةٍ ولم يرضخ لفتنةٍ، بل جعل يشق عبابَ الباطل قاصدًا جوديَّ الحق، لا يعبأ لريحٍ ولا يثنيه موج، كان حُلُمه الوصول، تلك الكلمة التي لم يزل يرددها في خاطره ويستحث عليها غيره حتى بلغها.
هكذا أخبرنا ذات يوم: "لكي تحقق حلمك، لا بد أن تحملهم عليه وتقنعهم به، بل لا بد أن يحلموا به كما تحلم أنت، وأن يكونوا على استعداد للتضحية كما تفعل.. عندها فقط، قد بدأتَ تخطو بخطواتٍ ثابتة، حقيقيةٍ قوية، وإذا سُئِلتَ عن حلمك فاصدح به ولا تخجل، فإنه لن يحاسبك على حلمك العظيم إلا صاحب حلمٍ أعظم، واعلم أن أروع الأحلام وأعظمها هي تلك التي تتمدد بتمدد الزمن، وعندها فإن موتك أو غيابك لا يعني ضياع الحلم أو انحساره ما دمت قد نجحت في غرسه في قلوب الآخرين"، فالإنسانية تكتمل في المرء بقدر الأحلام التي يغرسها في نفوسهم.
هنالك حيث لا شيء يقطع صمت القبور، قبر يشع بينها كمشكاة، وفي جوف الليل تَمثُلُ الروح كبدرٍ في إحدى ليالي التمام، حين كنا نلتمس النور، وتلك البسمة لم تزل تملأ الأرض بِشرًا كأن لم تمض ساعةٌ. |
لقد كان على طريق الوصول عقباتٌ شدادٌ علم الفتى أن شدتها جزء من سمو مقصده، واختار من الطريق أوعرَه وأشدَّه حتى لا يكون بينه وبين الوصول سبيلٌ إلا قطعها ولا ممرٌ إلى سلكه، "فكلما كان المنتهى عظيمًا كانت العقباتُ أليمةً، وكلما تمَلَّك المنتهى العظيم من وجدانك كان استعدادك لتحطيم العقبات قويًا".
كان على يقينٍ أنه سيصل يومًا ما، نعم يعلم أنه سيصل وهو الذي بلغ من بقاء الأثر ورسوخ الفكرة المحفورة في نفوس الناس -من قبل أن تُخَط في كتابه الفارس- ما لم يبلغه غيرُه، ثم هو يغادر الدنيا مفردًا وحيدًا.
مر عامان على الرحيل، وها هو الثالث قد شارف على التمام ولم يزل أثر الفارس بيننا كنورِ بدرٍ مشرفٍ على ظلماتِ بحرٍ عظيم، وارى التراب جسده ولم يوارِ روحه وذكراه، والذكرى مؤلمة مؤرقة، لا يُسبل عليها جفن، ولا تقر لها عين، مظلمةٌ كقِطع الليل، حالكةٌ كأديم السماء.
هنالك حيث لا شيء يقطع صمت القبور، قبر يشع بينها كمشكاة، وفي جوف الليل تَمثُلُ الروح كبدرٍ في إحدى ليالي التمام، حين كنا نلتمس النور، وتلك البسمة لم تزل تملأ الأرض بِشرًا كأن لم تمض ساعةٌ من وداع، حينها.. علم الموت ألا حياة له بيننا، فاصطفاه على نقاء قلبه وصفاء سريرته.
هكذا كان الختام.. وتلك كانت بداية الوصول.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.