شعار قسم مدونات

مدارس الصبر

blogs - قرآن

إن في المحِن التي جرت على العلماء والأئمة، وسيرهم العامرة بجميل الصبر على الأذى والبلاء، مدرسة لكل راغب في التعلم والتأسي والاقتداء، فهم الذين قد تفضل الله عليهم بأن خصهم بحمل رسالة العلم وإبلاغها للناس، فسبحان من أعزهم بذلك وجبلهم عليه، فضربوا أروع الأمثلة في الصدع بالحق والصبر وتحمل الأذى في ذاته جلا وعلا.

ولقد كان لهم ولغيرهم في المعلم الأول والسيد الخالص صلوات ربي وسلامه عليه أسوةٌ حسنة، وسراجًا يضيء الطريق للسالكين والباحثين عن طريق الهدى والحق، والقاصدين لمدرسة يدرس فيها الصبر في أعلى مراتبه وأحسن صوره، وطريق العلم والمعرفة، فمن سيرته العطرة وهديه القويم قد نهلت عقولهم ما استطاعت، وعلى نور خطاه قد ساروا قدر ما مكنتهم قواهم، فلم يتوانوا ولم يفرطوا، فأحسنوا التأسي والاقتداء، فكانوا أسوة وقدوة لغيرهم من المسلمين.

إن صح ما قيل في وفات أبو حنيفة رحمه الله فقد نال الشهادة، فقد قيل بأن المنصور سقاه السم! رحم الله أبا حنيفة الذي قال عنه الإمام الذهبي (الإمام، فقيه الملة، عالم العراق..).

ومن بين هؤلاء العظماء برز الائمة أصحاب المذاهب الأربعة، رحمهم الله جميعاً فكانوا من أشد الناس بلاء بعد الأنبياء، فقد جرت على كل واحد منهم أكثر محنة، فصبر كل واحد منهم على ما ابتلاه الله به وامتحنه فيه، حتى رفع الله عنهم البلاء بعدما صُقلت عقولهم واجسادهم، فأعلى بذلك شأنهم ومكانتهم، وزاد به علمهم وجعلهم أكثر من ذي قبل تمسكاً بالحق وصدعاً به.

ومن عظمة هؤلاء العلماء أيضاً، أن الدنيا لم يكن لها في قلوبهم مكان يذكر، حتى أنهم إن أصابهم البلاء في حاجة من حوائج الدنيا لم يذكروه حياءاً من الله، ولما كان الدين عندهم هو كل شيء، ومقدم على كل شيء فقد اعزهم الله بدينه وشرفهم بحمل اصوله وجعلهم هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين.

ومن العظماء الأربعة اخترت اثنين منهم لضيق المساحة، فليس من مقامهم رحمهم الله جميعاً أن تُضغط سيرة عظيمين منهم في مسودة، قد لا تسع لذكر نسب واحدٍ منهما أو ذكر بعض خصاله، وما اخترت من محنهما التي جرت على عليهما إلا واحدة لكل واحد منهما، واختصرت في سردها بما لا يضر بمضمونها.

فها هو الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله يرفض تولي القضاء وقد عرضه عليه يزيد بن عمر بن هبيرة والي العراقين (البصرة والكوفة) في أيام مروان بن محمد الأموي، وهدده ابن هبيرة إن لم يفعل ما يأمره به ليضربنه بالسياط على راسه، فلما بلغ الإمام ذلك قال :"ضربه لي بالسياط في الدنيا أسهل علي من مقامع الحديد في الآخرة، والله لا فعلت ولو قتلني." فبلغ ابن هبيرة قول الإمام فعزم أن ينفذ وعيده، وجيء بأبي حنيفة فضرب عشرين سوطاً على رأسه، فما كان من أبي حنيفة إلا أن قال لابن هبيرة: اذكر مقامك بين يدي الله فإنه أذل من مقامي بين يديك، ولا تهددني فإني اقول :لا إله إلا الله..

فأومأ ابن هبيرة للجلاد أن أمسك. وأطلق ابن هبيرة سراح أبا حنيفة بعد أن بات في السجن، فأصبح وقد انتفخ وجهه ورأسه من الضرب، فقد رأى ابن هبيرة في نومه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: أما تخاف الله تضرب رجلاً من أمتي بلا جرم وتهدده؟..

روي أن مالك بن أنس حين حُمل على بعير وقيل له ناد على نفسك من باب الإمعان في إذلاله، فنادى: ألا من عرفني فقد عرفني، أنا مالك بن أنس، أقول طلاق المكره ليس بشيء.

هذه محنة واحدة من محنٍ قد جرت على الإمام فتحمل وصبر ورفض عرض الحياة الدنيا، ورفض أن يبيع آخرته بمنصب أو جاه، وما كان هذا الرفض من أبي حنيفة للمناصب، وذاك الصبر منه على المحن إلا لأنه كان عابدا لله طامعاً فيما عنده زاهداً فيما عندالناس.

 فقد قيل أنه رحمه الله مكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، وأنه كان يصلي في الليل، ويقرأ القرآن في كل ليلة، ويبكي حتى يرحمه جيرانه، وروي أيضاً أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة. وإن صح ما قيل في وفاته رحمه الله فقد نال الشهادة، فقد قيل بأن المنصور سقاه السم! رحم الله أبا حنيفة الذي قال عنه الإمام الذهبي (الإمام، فقيه الملة، عالم العراق..).

وأما عظيمنا الثاني فهو شيخ الإسلام، جحة الأمة، إمام دار الهجرة كما قال عنه الذهبي، وهو من قيل عنه أيضاً: أنه عالم أهل الحجاز، وهو حجة زمانه. وقال عنه تلميذه الشافعي: وصدق وبرَّ إذا ذكر العلماء فمالك النجم! نعم إنه الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، ومحنته رحمه الله كانت بقدر عظمته وهيبته ومكانته.

ولمَ لا يكون صاحب مكانة وصاحب هيبة، وقد أجمع طائفة من العلماء على أن مالك رحمه الله هو المقصود بالبشارة في قول النبي صلى الله عليه وسلم « يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة » حسنه الترمذي وصححه الحاكم وابن حبان..

وكانت محنته رحمه الله أنه أفتى بعدم وقوع طلاق المُكره، فلا يقع طلاق الرجل لزوجته إن أُجبر أو أُكره على ذلك، وما قال الإمام ذلك إلا نقلاً لكلام عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، أنه قال : ليس على مستكره طلاق. فجاء بعض أهل السوء من الحاسدين الحاقدين فقالوا لأبي جعفر المنصور: هل تدري ماذا يقصد مالك بقوله: ليس على مستكره طلاق ؟!

جيء بأبي حنيفة فضرب عشرين سوطاً على رأسه، فما كان منه إلا أن قال لابن هبيرة: اذكر مقامك بين يدي الله فإنه أذل من مقامي بين يديك.

قال: لا، قالوا: يعني (مالك) أن البيعة التي تأخذونها أنتم على شعبكم ورعيتكم بالقوة والإكراه، أنها لا تنفذ، وإنه لا يراها! فأُحضر الإمام وأركبوه وجلدوه أربعين جلدة، وضرب حتى أصابه هذا الضرب في يده فكان يحمل إحدى يديه بالأخرى، وقد ارتخت أعصابها من شدة الضرب حتى انخلعت كتفاه رحمه الله.

وقد روي أنه حين حُمل على بعير وقيل له ناد على نفسك من باب الإمعان في إذلاله فنادى: ألا من عرفني فقد عرفني، أنا مالك بن أنس، أقول طلاق المكره ليس بشيء. فقال أبو جعفر: أدركوه، أنزلوه. هذا مالك العلم والمنزلة قد أهين وضرب، وهو من بلغت هيبته ومكانته في أهل المدينة أنه إذا مات لهم ميت تجمع أهله وقالوا: امضوا بنا إلى مالك يعزينا!

وهو من قال عنه الشافعي: ما هبت أحداً قط هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه. وقد قال مالك رحمه الله في محنته: ضربت فيما ضرب فيه سعيد بن المسيب، ومحمد بن المنكدر، وربيعة، ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.