شعار قسم مدونات

ما رأيته في المخيم

blogs- الخيمة

كنت عائدة من هناك عندما فتحنا أغنية ما، استمعنا لها والقلب ينزف بصمت.. "ما تزعلي مني يمي.. مو بإيدي طالع.. غمضي عينك وفتحي يمي.. تلاقيني راجع.. تلاقيني راجع..". يعود بي الشريط رويداً رويداً حينما تعودت أذناي -كغيري- على سماع مصطلحي "اللاجئين والمخيمات"، يهيأ لي تلقائياً عند ذكرهما أمامي أشخاص في حالة يرثى لها، يقطنون خياماً بالية، أولادهم حفاة، وجههم متسخ بالطين، وشعرهم أعث غير مرتب.

هذا ما كنت أظنه حتى صباح ذلك اليوم الذي قررت فيه أن أزور المخيمات العشوائية للسوريين بداعي الفضول، فتوجهنا إلى محافظة المفرق الأردنية الحدودية مع سوريا. في الطريق إلى المخيمات راودتني العشرات من التخيلات، اعتقدت أني سوف أرى حالاً صعباً وظروفاً لا تسمح باستمرار الحياة، لكنني وجدت قصصاً وحكايا، وآهات مخبأة ببن دموع العين الأبية، يتلعثم اللسان وتنفد الكلمات، ولا شيء سوى العينين اللتين يحكيان كل شيء.

عندما راودتها فكرة تلهب بها "كيف أحافظ على عفة بناتي؟"، فحزمت أمرها وقررت أن تلجأ إلى مخيم عشوائي لا رعاية فيه عدا قطرات ضئيلة من المساعدات المتقطعة.

لا أدري إن كنا نعلم ما معنى أن يقطن الإنسان مع عائلته وأحيانا يزداد العدد فتصبح العائلة عائلتين وثلاث في خيمة واحدة، لا أدري حقاً ماذا تعني لهم هذه الخيمة الرثة، حيث الصحراء ولا شيء سوى المدى البعيد.

أطفال سلبت منهم البراءة، ضحكاتهم جميلة جداً، تتساءل بينك وبين نفسك وانت تحدق بهم قائلاً: "هل ترى سيكون مستقبلكم جميلاً بقدر جمال ضحكاتكم هذه يا أحبائي؟؟ "، ولا تجد إجابة، فالمستقبل هنا لا يتعدى أن يكون سوى ترف مستهجن، أي مستقبل هذا وهنا تنحصر الأحلام بيوم يمضي وهم ملأى البطون فيه، وأن تقضى ليلة هادئة دون أن يعكر صفوها رياح عاتية تقتلع خيمهم من مكانها وتتركهم يلتحفون السماء المظلمة.

نساء يقفن أمام خيامهن تلك التي ضاقت عليهن كقبر يكتم الأنفاس، خرجن من وطنهن آملين بقليل من الطمأنينة، وكيف للطمأنينة أن تجد سبيلاً إلى قلوبهن وسط هذا الكم من العوز والحاجة؟

دخلنا إلى خيمة تقطنها أم مع فتياتها الخمس، حرص الأم الذي بداخلها جعلها تخرج من مخيم قانوني تحت رعاية أفضل – إلى حد ما – حفاظاً على بناتها، ومن يدري ما إذا كان الخوف قد جعلها تمتنع عن النوم ليلاً، عندما راودتها فكرة تلهب بها "كيف أحافظ على عفة بناتي؟"، فحزمت أمرها وقررت أن تلجأ إلى مخيم عشوائي لا رعاية فيه عدا قطرات ضئيلة من المساعدات المتقطعة، لكنه مخيم يقطن فيه أقرباء لهم من عائلتهم يحمونهم إذا ما مسهم أي مكروه.

– من مات لك في الثورة يا خالة؟ -كثر يا خالة، لم أعد أتذكر! بهذه الكلمات أجابتنا، فساد الصمت وشرد الذهن حتى قاطعه صوتها مجدداً وهي تضرب على قدميها بحسرة وتقول بصوت أجش: "يا ليتني طيرٌ بجناحين لأحلق إلى سوريا، أحوم فوقها قليلاً ثم أعود… ليت لها رائحة كي أشمها…".

المستقبل هنا ترف مستهجن، أي مستقبل هذا وهنا تنحصر الأحلام بيوم يمضي وهم ملأى البطون فيه، وأن تقضى ليلة هادئة دون أن يعكر صفوها رياح عاتية تقتلع خيمتهم.

دخلنا إلى خيمة أخرى فشممنا رائحة غريبة، أتانا الجواب فلم نصدق، أي جحيم هذا؟! كان مصدر الرائحة هو البلاستيك! في المخيم عندما تنقطع مساعدات الحطب عنهم، ويصبح الحطب الذي لديهم رطباً بفعل الجو، يضطر قاطنوه أن يجمعوا أنانبيب الري البلاستيكية التي يلقونها فلاحوا المزارع القريبة منهم، فيحرقونها داخل الخيم من أجل الحصول على القليل من الدفء والكثير من ثاني أكسيد الكربون القاتل وغيره من الغازات السامة…
 

شاءت المصادفة أو لا أدري ما التسمية الأدق لما يحصل أن يكون سكان هذا المخيم جميعهم ممن هربوا قبل يومين من إلقاء طائرات النظام السوري للأسلحة الكيميائية في الغوطة، نعم هربوا من الموت خشية غاز السارين إلى حيث تمتلئ رئاتهم برائحة البلاستيك المحترق، وليستيقظوا صباحاً فيجدوا أبناءهم الصغار جثثاً هامدة! 

علمنا أيضاً أن مساعدات المعاطف والأحذية التي تصلهم يحرقونها هي أيضاً في بعض الأحيان؛ من أجل بعض الدفء في عالم قاس بارد، وانسانية متجمدة. على الساتر الحدودي الفاصل بين الأردن وسوريا وقفنا، ومن جديد كانتا العينين هما العنوان الأبرز وبداية الحكاية ونهايتها، نظر إلى بلده القابع خلف الأسوار وقال لنا بأن بيته يبعد خمسة كيلومترات فقط من هنا، ثم صعد إلى السيارة بجسد متهالك يملأه الحنين الدامي والحسرة. هذا ما رأيته في المخيم، قصص آثرت البقاء داخل تلك الخيم، وتفاصيل لم تُروى ولم تُحكى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.