شعار قسم مدونات

زرقاء الحمامة

مدونات - قارب

‎فسيحٌ من الأزرق، على امتداد عيناي.. وعيناكِ.. ما أجملهما من عينان، لم يُخلق شبيه لهما.. لو أنكَ رأيتهما.. هما مرآة للأزرقين المحيطين بأزرقيها.. أقصد زرقة عينيها.. وحين تحاول قطرات من الأزرق السفليّ أن تتسلل خلسة داخل هذه الزرقة.. فتغمضهما وتفركهما من حُرقة ملوحتها.. فأسترق النظر إلى نَضارة وجهها دون أن تراني وتصفعني كعادتها؛ وتقول لي إنها تخجل.. تفتحهما مرة أخرى.. احمرَّت أطرافهما، ولكنهما بقيتا زرقاوين..

لم تفهم، صحيح؟.. حسنًا.. سأقربها لك.. هل رأيت الأزرق العلويّ؟ عند مطلع الغروب؟ أرأيت كيف يغزوه الأحمر؟ تمامًا.. هكذا هي زرقة عينيها الآن، ولكنهما لن تتحولا إلى السواد كالأزرقين عند حلكة الليل.. ستبقيان زرقاوين.. لامعتين.. ضياءً للأسودين. طلبتْ مني أن تقف وحدها على ناصية القارب، تريد أن تنظر للقمر.. لا ضير في ذلك، فجميع النساء يحبذن النظر لأنفسهن في المرآة بمنأى عن عشّاقهن.. وحمامةُ مثلهن.. فهي تنظر للقمر.. القمر مرآتها.. نعم، حمامة هي القمر..
 

ماذا فعلتِ بهم يا حمامة كي ينالوا منكِ؟.. أزرقة عينيك هي من أثارتهم؟.. أزرقة عينيك هي من قتلتك؟.. ماتت حمامة.. قتلها الأسود.. قتلها كي لا يطغى أزرق على زرقته.. زرقته السوداء!!

‎فجأة، هز القاربَ موجة قوية، صرخت حمامة، سقطت في الأسود السفليّ.. استنجدت بي.. هرَعْتُ إلى تلك الناصية من القارب.. لا أستطيع أن ألمحها! فأنا بين الأسودين.. ولكنّي أسمع صوتها.. إنها تستنجد بي، ماذا أفعل يا إله الأسودين. وجدتها، هممت وصرختُ بقوة: افتحي عينيكِ يا حمامة..
 

‎لحظتان.. وكأنهما نجمتان خُلقتا فجأة على سطح هذا الأسود، قفزت إليها، عيناها كانتا مثل حبل نجاة لأصِل إليها.. استغلت قطراتُ الأسود ضعفَها.. نعم، استباحت عينيها.. قبل أن أوشك على الوصول إليها.. أغلقت حمامةُ عيناها.
 

‎أمسكتها.. وضعتها على ظهري لأعود.. كان ثقلها يجبر رأسي أن ينغمس في الأسود.. حمامةُ نحيفة.. عيناها هما من أثقلاها.. قلت لكَ.. ليس كمثلهما عينان.. صارعتني الأمواج العاتية.. وكأنها تريد أن تثأر مني.. أو من حمامة.. رفعتها ووضعتها داخل القارب.. كانت فاقدة للوعي.. وضعت إصبعي على عنقها لأفحص نبضي.. أقصد نبضها. نبضة.. نبضتان.. توقف النبض.. دمعتان سالتا من عيناي.. مسحتهما بسرعة.. لا.. يستحيل.. يستحيل أن تموت حمامة بهذه السهولة.. أمسكتُ يديها.. وضعتهما فوق صدرها.. ضغطتُ بكلتا يدي عليها.. استيقظي يا حمامة.. أرجوك.. لا تتركيني.. لقد أضنيتُ كثيرًا حتى امتلكتك.. إني أحبكِ.

‎صوت أمواجٍ فَرِحة.. وصوت نَحيبي.. وصوت صريخها عندما سُلبت مني في أحشاء هذا الأسود. ‎كانت تستنجد بي.. والآن أنا أستنجد بها.. كانت عيناها النائمتان غارقتين بالدموع.. ليس دموعها.. كانت دموعي تسلك الطريق وحدها إلى عينيها.. حتى تلك الدموع كانت تنتظر تلك العينين حتى تصحوان.. لتتسلل (الدموع) خلسة كما القطرات.. لكنها لم تصحُ.. ماذا فعلتِ بهم يا حمامة كي ينالوا منكِ؟.. أزرقة عينيك هي من أثارتهم؟.. أزرقة عينيك هي من قتلتك؟.. ماتت حمامة.. قتلها الأسود.. قتلها كي لا يطغى أزرق على زرقته.. زرقته السوداء!!

كنت أسير عينيها.. أمسكت يديها.. قبلتهما.. استنشقتهما..
ولم أستنشق بعدهما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.