شعار قسم مدونات

أنا أجادل.. إذا أنا موجود

مدونات - الخلاف

"إذا أردت أن تثبت أنك على حق فليس عليك إلا أن تثبت أن الآخرين مخطئون".. هذه الطريقة الغريبة في التفكير عند بعض البشر تذكرني بمقولة نهاد قلعي الشهيرة في مسلسل صح النوم "إذا أردنا أن نعرف ماذا في ايطاليا يجب أن نعرف ماذا في البرازيل"..

"تماما كما أن لا علاقة منطقية لما يوجد في إيطاليا بما قد يوجد في البرازيل، فإن لا علاقة منطقية أيضا بين صحة ما تدعيه أنت وخطأ أي نظرية أو معلومة أخرى، فإثباتك خطأ الآخرين لا يعني بالضرورة أنك على صواب ولا يعني أيضا أنك الوحيد الذي يمسك بزمام الحق والحقيقة بينما يصنف الباقون في خانة سوء الفهم أو سوء النية!"..

كانت تلك هي الطريقة التي أنهيت بها جدالا عقيما كنتُ قد دخلته مرغمة مع أحدهم بعد أن احتجزني رهينة إصراره لأكثر من ساعة ونصف وهو يجادلني بأمر بديهي لا يستدعي حتى النقاش، ومع أني آثرت الانسحاب برغبتي ولقناعتي أننا لن نصل لنتيجة ما، إلا أن جزء مني كان يريد البقاء وخوض شوط أخير من "تكسير الجماجم" بعد أن استفزني أسلوب الرجل ونجح بتعطيل الجزء المسؤول عن المنطق في دماغي..

مشكلة "عدم تقبل آراء الآخرين برحابة صدر" عند محبي الجدل تعود جذورها عادة إلى اهتزاز صورة الأنا لديهم عند التعرض لأي موقف يحمل اختلافا أو مقارنة من أي نوع.

أن تختلف مع أحدهم على رأيه أو تتفق فهذا كما هو معروف شأنك الخاص لا يحق لأحد أن يجبرك عليه أو يتدخل فيه، لكن الحال ليس كذلك مع أصحاب "العقلية الجدلية"، فأصحاب هذه العقلية المتعِبة يتبنون عادة استراتيجية "دفاعية هجومية" لإثبات خطأ الآخرين، فهم من جهة يعتبرون أن خلافك لرأيهم هو تهديد للنوع البشري يستدعي منهم استنفار كل خطوط الدفاع وإعلان حالة الطوارئ، ومن جهة أخرى يرون أن أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم المباغت لسلبك فرصة شرح وجهة نظرك واستدراك الموقف، ولك أن تتخيل الباقي..

وبما أنه لا يوجد أي احتمال بنظرهم لأن تكون آرائهم غير دقيقة، فإن الاختلاف معهم عادة ما يتحول إلى خلاف ويفسد تلقائيا ود القضية وود الجلسة وود العلاقة فيما بعد، وتجد نفسك قد دخلت في حرب طاحنة لا ناقة لك فيها ولا جمل فقط لأنك طرحت رأيا مغايرا لرأي "صاحبنا" أو حتى احتمالا آخر لا ينفي بالضرورة ما تفضل به..
 

وعادة ما يتفاقم الوضع ويصبح أكثر استفزازا عندما يكون صاحب هذه العقلية لا يمتلك أرضية للنقاش يمكن الاستناد عليها والانطلاق منها، أو حتى يُلم إلماما بسيطا بمبادئ وأدبيات النقاش مع أقل قدر ممكن من المنطق واحترام عقل السامع، والأدهى عندما يترافق كل ما سبق مع ضيق بالأفق وضحالة في المعلومة، عندها ستجد نفسك تترحم على المتنبي في قبره مرددا بيته الشهير: "لكل داء دواء يستطب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها!".

إن مشكلة "عدم تقبل آراء الآخرين برحابة صدر" عند محبي الجدل تعود جذورها عادة إلى اهتزاز صورة الأنا لديهم عند التعرض لأي موقف يحمل اختلافا أو مقارنة من أي نوع، فضعف الثقة بالنفس التي يجاهد صاحبها ليظهر عكسه تخونه في هذه المواقف وتسبب زعزعة في الأنا تجعله يحاول تعويضها بإثبات انتصاره على غيره، فيلجأ للجدل كطريقة لإعادة الاستقرار لأناه المضطربة وإعطائها جرعة من مخدر الانتصار..

أكثر الناس صراخاً لكن أكثرهم بُعدا، بينما أكثر الناس تأثيراً أكثرهم عملا بصمت وإن بعدوا، تماما كالنهر كلما ازداد عمقه قلت ضوضاءه.

يعتبر وجود نماذج كهذه من حولنا ابتلاء للأفراد وحملا ثقيلا على المجتمعات خاصة عندما تكون هذه النماذج قد تمرست على إخفاء "الروح الغير رياضية" لديها من خلال الخبرة التي اكتسبتها من الاحتكاك مع البشر، فتراها ترفع شعار الديمقراطية وتتكلم باسمها لتُري الناس وجهها الحضاري وتثبت انفتاحها على الجميع، لكن ما خفي أعظم..

والخوف الأكبر يكمن في أن نوعية التفكير هذه تشكل أرضية خصبة للفكر الفصائلي الذي يعتبر أن جماعته فقط هي من تملك الحق وبالتالي هي المفوضة لرفع رايته دونا عن الجميع، فتراه ينظر للاختلافات السطحية وكأنها خلافات جوهرية ويتصرف بناء عليها فيبدأ الاقتتال بين أبناء القضية الواحدة فيضيع الحق وتضيع القضية وتميع جدية الأمور..

الأصل في الحياة أنه كلما ازداد علم الإنسان ازداد تواضعه وقلت حاجته للجدل وارتقى، لذلك فإن أكثر الناس صراخاً لكن أكثرهم بُعدا، بينما أكثر الناس تأثيراً أكثرهم عملا بصمت وإن بعدوا، تماما كالنهر كلما ازداد عمقه قلت ضوضاءه..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.