شعار قسم مدونات

أطفال في مهبّ الريح

blogs أطفال فقراء

حدَّثَتْنِي صديقةٌ تعمل في جمعيّة تهدف إلى مساعدة الأُسر الفقيرة عن عائلة كانت الجمعيّة متكفّلةً بمساعدتها؛ باعتبارها تحت خطّ الفقر، كان الرجل يعمل بالمياومة بمبلغ زهيد ولا يقوى على عمل إضافيّ؛ لإصابةٍ في قدمه إثْر حادثٍ قديم، وكان له زوجة وطفلان، أخبَرَتْني بأنّها كانت مُتحمّسة للنهوض بالعائلة مِن أجل الطفليْن اللذين لا تخفى براءتهم على أيّ زائر: "كنتُ أحلم في أنْ نستطيع تأمين ما يلزم لهما مِن حياةٍ كريمة، وكنتُ أتخيَّل (عبّود) الولد الأكبر وقد أصبح رجلًا يُعتمَد عليه لينشل نفسه وأهله مِن مستنقع الفقر المُدقع، قُمْنا بتأمين ما يلزم لهما، وكانت سعادتي لا توصَف في كلّ زيارة وأنا أرى أملًا لطفليْن جميليْن في حياة كريمة" قالت صديقتي.

إلّا أنّ السعادة لم تستمرَّ طويلًا، ما هي إلّا شهور قليلة حتّى كلّمَتْها أمُّ عبّود (لتفرِّحها) بخبَرِ حمْلِها بالثالث، حاولت ابتلاع الخبر، باركتْ لها على مضض، وأخبرتْها أنْ تعيَ أنّ المال المُؤمَّن لاحتياجات العائلة لن يزيد، وأنّ الطفل الثالث سيأخُذُ مِن نصيب الطفليْن، فأجابتها: "كلّ طِفل يأتي ورزقه معه". أخبَرَتْها أنّ مصادر الدخل معروفة، وأنّ عمل زوجها لا يدرّ دخلًا جيّدًا، وهذه حقيقة فما الرزق الذي تنتظره؟ لم تُعِرْ أمُّ عبّود صديقتي إيّ اهتمام، بل إنّها بعد سنة أنجَبَتِ الرابع ثمّ الخامس.

الرزق لم يتغيَّر، ما حصلَ أنّه توزَّع على سبعةٍ بدلًا مِن أربعة، وبدأتْ تظهر مشاكل صحّيّة ناتجة عن سوء التغذية، وما أنْ قامتْ صديقتي بتجميع مبلغ لتحسين الوضع المعيشيّ للأطفال حتّى فاجَأَتْها أمُّ عبّود بحمْلِها بالسادس؛ ما دفَعَ صديقتي للاستسلام وتسليم متابعة أمْرِ هذه العائلة لِمُتطوِّع آخر خصوصًا بعد آخر زيارة رأتْ فيها عبّود وأخاه في حالةٍ يُرثى لها مِن انعدام العناية والاهتمام.
 

لقد تغيَّرتِ الحياة وتبدَّلت، قبل عقود كان يكفي أنْ يتعلَّمَ طفلٌ واحدٌ لينهضَ بعائلته ويُخرجها مِن حلقة الفقر، اليوم لم يعُد هذا مُمكنًا، فأعداد الخرِّيجين العاطلين عن العمل في تزايد، والتنافسُ بَلَغَ أشُدَّه

قصّةٌ تتكرَّر كلّ يومٍ، أعدادٌ كبيرة من الأطفال يتمُّ إنجابهم ليتولّى الشارع مسؤوليَّتهم، أُمٌّ لن تستطيع مهما فعلَتْ إعطاءَ كلّ طفل حقَّه في الرعاية والاهتمام، وأَبٌ ضاقَ ذرعًا بالمسؤوليّة المادّيّة والنفسيّة، ليصبح الإهمال والعُنف أحيانًا الطريق الوحيد في التربية للسيطرة على أطفال لكلٍّ منهم احتياجاته النفسيّة التي لا يملِكُ أحدٌ ما يكفي من الوقت لاكتشافها.

كم موهبةٍ مِن المواهب دُفنت في مهدها لم يكتشفْها أحدٌ! وكم بابٍ مِن أبواب الإبداع سُدَّتْ؛ لعدم توافر المال والإمكانات! وكم مِن طفلٍ بريءٍ تحوَّلَ لِمُدمن في الشارع! مُنذ متى أصبح التفاخر بالعدد لا بالنوعية؟! أليسَ أجدادنا مَن انتصروا في غزوات وحروب رغم قلّة عددهم؟! أوليس هم مَن انهزموا في أخرى لاغترارهم بعددهم؟! مَن المسؤول عن إغلاق العقول ناسيًا (اعقِلْ وتوكَّلْ)؟! هل نرمي أنفسنا في حُفرةٍ مُبرِّرين هذا بقدر الله؟!

لقد تغيَّرتِ الحياة وتبدَّلت، قبل عقود كان يكفي أنْ يتعلَّمَ طفلٌ واحدٌ لينهضَ بعائلته ويُخرجها مِن حلقة الفقر، اليوم لم يعُد هذا مُمكنًا، فأعداد الخرِّيجين العاطلين عن العمل في تزايد، والتنافسُ بَلَغَ أشُدَّه، كما أنّ الـتأثيرات النفسيّة التي يحملها الطفل معه من طفولة صعبة قد تأخُذُه في طرق أُخرى غيرِ سليمة تعودُ بالضرر على المجتمع بشكل عامّ.

لقد آنَ الأوان لتفعيل دوْر عُلماء النفس والاجتماع، وإضافة مناهج جديدة تشمل مساقاتٍ مِن علوم مختلفة تمّ إهمالها لسنوات طويلة، ولم يجلِبْ لنا هذا الإهمال سوى الجهل، لقد آن الأوانُ لنعيَ أنّ إنجاب الأطفال لا يحتاج لمقدرة على إطعامهم وكسوتهم فقط، بل يحتاج لقدرة نفسيّة هائلة على تحمُّل المسؤوليّة والعناية والتربية، يحتاج لقراءة وثقافة، ويحتاج لإنسانيّة وحنان وعطف ومشاعر قد لا تتوافر في الجميع، فَرِفْقًا بالأطفال والمجتمع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.