قلنا في مقال سابق إن الحزب الذي تكون بعد مفاصلة الإسلاميين في نهايات القرن الماضي وجد نفسه بين مطرقة النظام الساعي لتحطيمه بأي صورة وسندان المعارضة التي كانت لا زالت تتوهم أن ما حدث هو صفحة جديده من صفحات كتاب الإسلاميين لا تتجاوز في أحسن أحوالها محطة (اذهب إلى القصر رئيسا وسأذهب إلى السجن حبيسا) .
وكيف أن الحال انتهي بالحزب الشعبي إلى أن يرمي بكل أوراقه في محطة الحوار الوطني ينتظر الوفاء بها من رئيس الجمهورية ضمن خطة أوسع سميت بالنظام الخالف كان قد ابتدرها المرحوم الترابي وتم توزيع مسودة الخطة على عدد من التنفيذيين بالحزب مع أخذ القسم ممن أطلع على الوثيقة ألا يذيع أمرها إلا متي ما طلب منه ذلك.
وبالنظر إلى الوضع الذي يعيشه الشعبي الأن فإن حدث وفاة الشيخ الترابي كان قد بدا بداهة قاصمة ظهر لكل الجهود الساعية لتقديم الحزب وقادته من جديد إلى فضاء السياسة السودانية، قيمة ورمزية الترابي كانت تختزل على الحزب الجديد سنوات كثيره من الجهد والمواقف لحشد انعطاف عام من جهة الشعب السوداني ومن القوي المؤثرة على السياسة السودانية، الفقيد الذي كفر سابقا بكل أليات العمل العسكري طريقا للعودة إلى السلطة مره أخري اختار الطريق الصعب والمباشر هذه المرة.
قدم الشعبي بعض الأسماء التي لم تكن مشهورة أو انشغلت في جهاز الدولة قبل المفاصلة إلى العامة والواجهة في طريقه لإيجاد قيادات جديدة غير التي فارقته إلى صف الحزب الحاكم |
اختار حشد الجماهير والصبر على المعارضة وسذاجتها ومحدودية أفكارها وأثر التنسيق معهم في كل جهد يساعد في القضاء على الإنقاذ، وبالرغم من طريقه ذاك فإن الإنقاذ لم تدخر جهدا في سبيل إضعافه والقضاء على حزبه الوليد، ألقت القبض عليه وعلي الكثير من أعوانه ولفقت لهم التهم وألقت بهم في السجون لفترات متطاولة، طاردت الأسماء المشهورة وأي اسم أشتغل بالحزب في معاشهم ووظائفهم فشردت البعض خارج البلاد وقتلت البعض وأسلمت البعض الأخر إلى ضنك الحياة القاسية وأبقتهم منشغلين بتوفير معاشهم وأسرهم وسعت بأي طريقة إلى استقطاب أي اسم مهما كان صغيرا إلى صف الحزب الحاكم وحاولت تعظيم تأثيره، كل ذلك كان مصحوبا بحملة إعلامية ضخمة استعملت فيها الحكومة ألياتها الإعلامية الواسعة الانتشار .
بالرغم من كل هذا الحصار والمخاطر التي مر بها الحزب الوليد وأفراده إلا أن الهدف المرحلي المطلوب من فترة المصادمة والممايزة الأولي مع الدولة كان قد تحقق وبامتياز:
*انتشر اسم الحزب وأفراده معارضين أقوياء ضد النظام الحاكم، ومن حيث أرادت السلطة التشهير بهم عن طريق الإعلام فإنها أدخلتهم إلى كل البيوت وأصبح الناس ينتظرون الأخبار الحكومية عن الشعبي لينسجوا الحكايات على نقيض الرواية الحكومية موقنين بلا شك أن الحكومة تكذب وأن الأمر عكس ما حاولت تصويره.
*قدم الشعبي بعض الأسماء التي لم تكن مشهورة أو انشغلت في جهاز الدولة قبل المفاصلة إلى العامة والواجهة في طريقه لإيجاد قيادات جديدة غير التي فارقته إلى صف الحزب الحاكم.
*قدم الشعبي أوراق اعتماده في صف الأحزاب المعارضة والتي كان بعضها ينظر بريبة إلى المشهد كله باعتباره حيلة أخري من حيل الإسلاميين شبيه بالتي أنطلت عليهم في أيام الإنقاذ الأولي حين دخل معهم الترابي إلى السجن والثورة فعل أبناءه وتخطيط حزبه، وللمفارقة كان الحزب الأول الذي اعترف اعترافا كاملا بالشعبي ووقع معه وثيقة سياسية كانت الحركة الشعبية بقيادة الراحل قرنق تلك التي قاتلها العدد الأكبر من شباب الحزب الشعبي.
*الخارج الذي كانت له في الأزمة يد فاعله أيضا حاول وبهدوء طي صفحة الترابي والذين معه ظنا منهم أن الزمن كفيل بتجاوزهم ثم عاد مرة أخري إلى الاعتراف بهم وبدورهم في أي تغيير قادم ومد المؤتمر الشعبي جسور الاتصال مع المحيط العربي والأوروبي.
*انتظمت في بعض القطاعات المؤثرة كالطلاب أنشطة فاعلة في مختلف ضروب حركة المجتمع ثقافة وفكرا وسياسة جذبت إليها أفواجا من الشباب الذين تعرفوا على وجه أخر من وجوه فعل الحركة وهم الذين تعودا فقط على الأنشطة المتعلقة بالعمل العسكري في أطراف البلاد أو الخصومة السياسية في الساحات الشبابية الجامعة.
وبالرغم من جملة الإيجابيات التي تحققت في السنوات الأولي من عمر المؤتمر الشعبي إلا أن العديد من السلبيات والملاحظات أيضا أحاطت بالحزب وحدت من حركته:
لم تدخر السلطة أي جهد في سبيل إضعاف الشعبي واستخدمت في ذلك كل حيلة تعلمتها عبر تأريخها الطويل من القضاء على المعارضين، وتجاوزت كل عرف وأخلاق إلى حد إراقة الدماء والتعذيب المتطاول والوصم بالخيانة الذي طال حتى الدكتور الترابي |
*اعتمد الحزب في غالب حركته ومبادراته على حركة الشيخ الترابي واجتهاداته، بل كانت الاجتهادات الشخصية للترابي في مجال الفقه والسياسة هي التي شكلت الجزء الأكبر من ثقافة الحزب وخطابه العام للأخر، كانت المبادرات الأخرى التي لا تحمل توقيع الأمين العام أو بصمته نادره جدا أو معدومة للغاية وكانت كل الوفود التي تأتي تصوب جهدها فقط على مقابلة الترابي وكل حديث خرج لا يأخذ قوته إلا إذا كان مقرونا باسم الترابي أو تفويضه.
* غالب الذين انحازوا إلى صف المؤتمر الشعبي كانوا من الشباب والطلاب الذين يعظم تأثيرهم في الأجهزة التنظيمية والأداء الداخلي لكن ليس لديهم البريق واللمعان الخارجي الذي يحرك الناس ويأسر ألبابهم.. احتاج الحزب إلى فترة طويله لتقديم قيادات جديدة إلى الصف الأمامي.
*لم تدخر السلطة أي جهد في سبيل إضعاف الشعبي واستخدمت في ذلك كل حيلة تعلمتها عبر تأريخها الطويل من القضاء على المعارضين، وتجاوزت كل عرف وأخلاق إلى حد إراقة الدماء والتعذيب المتطاول والوصم بالخيانة الذي طال حتى الدكتور الترابي.
* تفشت في الحزب بعض الأمراض التي تعمر في أوساط المجتمع المتخلف من نعرات عصبية وجهوية وخاصة في الفئه التي يرجي منها لمستقبل الحزب مثل الشباب والطلاب، وبالرغم من أن استراتيجية الحزب كان قد حدت إلى درجة كبيرة من الاعتماد على العمل السري إلا أن ذلك أيضا تفشي استجابة فيما يبدو للهجوم الأمني الكثيف علي الحزب وعضويته.
ما ذكر أعلاه ليس رصدا دقيقا ومتكاملا للحزب وأحواله طوال فترة ما بعد المفاصلة وأثناءها، لكنها بعض إضاءات على متفرقات من تقييم للحزب وأداءه في الفترة السابقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.