وأنا أقلّب صفحات البؤساء في شيء من الإعجاب تَهَادَى إلى ذهني قولُ أحد النقّاد الفرنسيّين الذي قال فيه: إنّ كلّ رواية هي بقدرٍ ما قصيدة.. وكلّ قصيدة هي في بعض الدّرجات قصّة. وبما أنّ الرواية هي جنس أدبي يَعيش حركة التطوُّر والبحث عن أساليب غيرُ معهودة وفنيّات كتابة وعلى سبيل التّعميم نقول أنّ الرواية هي أكثر الأجناس الأدبية مرونة وقدرة على الانفتاح على الأجناس الأخرى من شعر وسينما ومسرح وتاريخ…
وقد شَهِدَت هذه الرواية مرونة لم تَشهَدها رواية من قبلها فنجدها ماثلة ففي أشكال عديدة من الفنون البصرية وحتّى التشكيلية وقد أَوْجَدَ هيجو تأليف هذه الرواية ممَّا جعله يَبْتَدِعُ في كسر الحدود بين السرد والشعر. فخرج لنا بهذه الأيقونة الخالدة التي بين أيدينا منذ عام 1863 أي بعد قرابة القرن ونصف القرن.
لكن كيف تَتَجَلَّى مظاهر الشعرية في النّص الروائي؟
استغلّ هيجو الظّرف السّامح والانسب ليُعبّر في حرية شبه تامّة. وقد قال: إنّ المجتمع الذي يَقبَلُ بوجود مثل هذا الفقر المدقع في أحضانه ينبغي أن يٌهاجَمَ ويُنتَقَدَ. |
إنّ الإجابة هنا في غاية من البساطة فنقول إنّ اللّغة هي القاسم المشترك بين الشعر والرواية، لذلك يقول جان إيف تادييه واصفاً أسلوب هذا الصنف من القصة: إنّ المرء لا يُدركُ أن قصة من القصص توسم بميسم الشعر إلاّ إذا انطلق من دراسة اللّغة فلا مفهوم الشخصيّات ولا مفهوم الزمان والمكان ولا مفهوم بنية القصة تُعَدٌّ شروطاً كافيةً لذلك أمّا التكثيف والإيقاع والموسيقي والصُّوَرِ فلا تغيبُ أبداً.. فهي تَصِلُ إلى حدّ خلق إنطباع بأنّك تُقبِلُ على هذه القصص وكأنما تقرأ قصائد نثرية طويلة.
أمّا عن البنية السردية للنص:
في بُنية دائريّة يكتب لنا فيكتور هيجو حكاية جان فالجان في لوحات سينيمائية متلاحقة متخلّصاً فيها من كل حشو أو تَزَيُّد سردي فهي لغة مقطّرة بغض النظر عن الوصف الذي أودعه المؤلف سرده والذي ما زاد الرواية إلاّ جلاءً. ووصفتُ البنية على أنّها دائرية لأنّ الحكاية تبدأ بخروج جان فالجان (الشخصية الرئيسية) من السجن وتنتهي بوفاته بين أحضان شخصين رئيسيّين بعد حكاية طويلة تَهتزُّ لها الأفئدةُ وتُذرِفُ المآقي وتُحرّك الضمير والوجدان.
وفيما يَلي إستعراض لعنوان الكتاب وعنوانه الأصليّ les misérables وترجمته البؤساء. وقد وَقَعَ اختيار المؤلف على عنوانٍ قد يبدو مباشراً، وهو أنّ روايته أشبه ما تكون بعالم مليءٍ بالشخصيات البائسة والأحداث المفجعة والنكبات المحزنة. وهو تجسيد يَقومُ على الحقيقي والمُتخيَّل لطبقة من المجتمع الفرنسي وحقبة من الزمن (سقوط نابليون والثورة الفاشلة ضد الملك فيليب) بلغ فيها هذا المجتمع من المخاض والفاقة والإجرام ما بلغ.
ويَصِحُّ القول أنّ هذه الرواية الكلاسيكية هي تراجيدية بامتياز فالعمل الأدبي التراجيدي تكون شخصيّاته (الرئيسية) في الدّرك أَيْ في سفح المجتمع. ولكنّ -هذه الشخصيات- رغم ذلك تَتَّصِفُ بالجلال والطهارة وتفكّر في مصائرها فيكون الصراع بينها وبين الآخر من البشر أو بينها وبين القدر حاسماً وعنيفاً إلى اقصى الدرجات.
ألّف هيجو رائعته في كَبِدِ العصر الرومنطيقي الذي كان عبارةً عن ردّة فعل ضدّ العصر الكلاسيكي الذي قَيَّدَ الفنان وحالَ دون الخيال المبتكر والتعبير عن الأفكار والانفعالات النفسية. |
(كالصراع بين جان فالجان والمفتّش جافير أو كوزيت وصاحبة المطعم زوجة اللّصّ تيناردييه أو بين أمّها فانتين والقدر الذي لم يسمح لها بلقاء ابنتها بعد قسطٍ كبير من الدّهر إلى أن شاء القدر أن تموت قبل رؤياها). ناهيك عن الحقبة التي انطلقت منها الرواية والتي هي في أواخر العصر الكلاسيكي إلاّ أن الهوّة بين الطبقات الاجتماعية لا تزال فسيحة حتى ذلك الحين.
ألّف هيجو رائعته في كَبِدِ العصر الرومنطيقي الذي كان عبارةً عن ردّة فعل ضدّ العصر الكلاسيكي الذي قَيَّدَ الفنان وحالَ دون الخيال المبتكر والتعبير عن الأفكار والانفعالات النفسية. فاستغلّ هيجو الظّرف السّامح والانسب ليُعبّر في حرية شبه تامّة. وقد قال: إنّ المجتمع الذي يَقبَلُ بوجود مثل هذا الفقر المدقع في أحضانه ينبغي ان يٌهاجَمَ ويُنتَقَدَ.. نعم إنّي أكره العبودية والفقر والجهل والمرض. وأريد تخليصَ المجتمع من كل ذلك.. أريد إضاءة الليل وأحقد على الحقدِ ولهذا السّبب كتبتُ البؤساء.
في ظل هيمنة الأدب الرخيص والمعاصر المبتذل لأشباه الكتّاب تُعدٌّ عادة الرجوع إلى هذه القَصص بين فينة وأخرى ترويحاً على الأنفُسِ من الابتذال والسّخافة. ففي النهاية لا يَسَعني إلاّ أن أثني على ما بُذل في هذا الكتاب المرجع من جهدٍ كبير جعله جوهرةً للأدب الفرنسي ومحلَّ فخر له. رواية إتّسمت بزخم التفاصيل و روعة الوصف ودقّة التعبير ومنهجيّة السرد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.