شعار قسم مدونات

حركة حماس وتوازن الألوان

blogs - حركة حماس
إن الحديث عن السياسة وممارستها هوحديث يأخذنا إلى فن مزج الألوان، ومهارة تشكيل لوحة فنية بانورامية تتسع فضاءات قد لا تراها أعين العامة، التي لربما تغرق في تفاصيل الواقع الذي يتشكل بألوان تبدو للناظرين على أنها بين أبيض وأسود. وحتى تتضح الصورة للناظرين أكثر، فإن التنظير في ممارسة السياسة يأخذنا عميقاً في الثابت والمتغير، فيذكرنا بشجرة وارفة الظلال جذورها ثابتة وفروعها تتسلق نحوالسماء، فصلية الثمار تميل أوراقها تارة إلى الخضرة وتارة تصفر ثم تتساقط، نراها قد تعرت في فصل الخريف، وتمايلت بقسوة في فصل الشتاء، إلا أن الرياح تبقى عاجزة عن اقتلاعها من تربتها لأنها تضرب جذورها في أحشاء الأرض. وتدور الأيام دورتها فتنتشي الجذور وتبدأ عروق الحياة تدب فيها، فتمتد الفروع وتزهرالثمار لتعجب الزراع.

ذات المشهد هو ما تعيشه حركة المقاومة الإسلامية حماس، في محيطها المعقد، تتفاعل معه فتدور بين إقدام وإحجام، تسعى لإحداث خرق فيه. يرقبها الناظر تارة مبدعة قوية ويراها أخرى مرتبكة ضعيفة حائرة. وحتى لا نقع رهينة لهذه أو تلك، دعونا نغوص في الألوان، نتحاكم إلى الثابت ونقدّرالمتغير في فكر هذه الحركة، فالثابت في ميثاق حركة حماس الذي حافظت عليه طوال مسيرتها منذ الانطلاقة عام 1987 يقضي بأن:

– أرض فلسطين أرض وقف إسلامي لا يصح التفريط بها أو بجزء منها، أو التنازل عنها أو عن جزء منها ( ميثاق حماس، المادة رقم 11).
– أن الجهاد في سبيل الله هو الطريق وهو السبيل الأمثل والخيار الاستراتيجي لحل القضية الفلسطينية، وطرد المحتل الغاصب من أرض الإسراء والمعراج (ميثاق حماس المادة رقم 13).

وهنا لا بد من الإشارة بأن مفهوم الثابت يخضع لمحددات لا بد من مراعاتها:

أولاً: الثابت في كل فكرة هو ذلك الجزء الأصيل المحدود، والذي لا يتحول ولا يتغير بانقضاء السنوات وتحول الظروف، لذلك فهو مبني على القطعيات التي لا مراء فيها. أما المتغير فهو اللامحدود كثير التحول تبعًا للظروف والمتغيرات التي تعيشها هذه الفكرة التي ترجو الحياة والبقاء. إلا أن تقلبه وتحوله لا يعني أنه فرع دون جذع ، فهو محكوم بضوابط وقيود لا ينقطع عنها. إلا أن له فسحة ومرونة تسمح له بالتأقلم مع المناخ ودوران الأيام، دون قيود صارمة ومحكمات مطلقة.

سجلت الحركة نجاحا بأن جعلت من نفسها حاضنة للمقاومة، بعد تجربة دخول الانتخابات وتشكيل حكومة تبنت في خطابها السياسي نهج المقاومة، ولم تقايض مشروعها السياسي رغم كل الضغوط والحروب.

ثانيا: من الطبيعي أن تصاب أي فكرة بالجمود والشلل إذا توسع فيها الثابت وتقيد فيها المتغير، فتصبح هذه الفكرة عاجزة عن مجاراة كل جديد بحجة الخوف على الثابت، فيصبح هذا الثابت المطرد التوسع طوقا فوق الحلقوم.

ثالثا: من السهل رفض كل ما هو جديد وإنكاره، إلا أن الصعوبة تكمن في استكشاف الفرص الكامنة فيه مع مراعاة المخاطر الناجمة عنه، والتحدي الأكبر يبقى في صناعة القرار وجرأة اتخاذه في الوقت المناسب لتحقيق المصالح أو دفع المفاسد، وهذا يتطلب جهدا واجتهادا ونية صادقة حتى يحظى بالتوفيق والرشاد.

رابعا: إن الواقع يزداد تعقيدا مع مرور العقود والقرون، وهذا الواقع من الصعوبة تكييفه وتطويعه للآمال العظام، لذلك شُرّعت الضرورة والحاجة بأحكام خاصة معتبرة؛ تقدر بقدرها. وقبل الحديث عن المتغير؛ فلا بد من الإقرار بأن حركة المقاومة الإسلامية –حماس- وقياداتها ما زالت متمسكة بالثوابت –سالفة الذكرالواردة في ميثاقها – فتجد خطابها الإعلامي يشدد على التمسك بفلسطين كل فلسطين كحق تاريخي لا يمكن التنازل عنه، وأن الاعتراف بإسرائيل ليس واردا من قبل الحركة.

وما كل الأحداث المؤسفة التي عاشتها الساحة الفلسطينية والحصار الظالم على الشعب والحكومة المنتخبة عام 2006، والضغوط على الحركة إلا من أجل أن تنصاع إلى مطالب اللجنة الرباعية، وأولى هذه المطالب الاعتراف بإسرائيل. وها هي وبعد عقد من الزمان تتحول اللجنة الرباعية إلى خبر كان ومعها خارطة الطريق التي أوصلت السالكين فيه إلى نفقٍ مسدود.

كذلك فقد سجلت الحركة نجاحا بأن جعلت من نفسها حاضنة للمقاومة، بعد تجربة دخول الانتخابات وتشكيل حكومة تبنت في خطابها السياسي نهج المقاومة، ولم تقايض مشروعها السياسي رغم كل الضغوط والحروب والحصار المستمر حتى يومنا هذا. فلبست المقاومة أشكالا جديدة، منها عدم تخليها عن دورها المدني في توفير مقومات الصمود ومقاومة الحصار، ومنها التصدي للعدوان ومقارعة العدو الصهيوني، وما عملية "الوهم المتبدد" والتصدي لعمليات "أمطار الصيف" و"حرب الفرقان" و"حجارة السجيل" إلا برهان ودليل على أن الحركة قد أبلت بلاءاً حسناً في ميدان النزال مع العدو الصهيوني، وعلى أن خيار المقاومة خيار أصيل لا يقبل القسمة في فكر حركة المقاومة الإسلامية-حماس. 

أدركت ثقل المسؤولية التي حمّلها إياه شعبها وبأنها ليست وحدها في الساحة فدعت إلى التوافق على "برنامج قواسم مشتركة" يضمن الحفاظ على الثوابت الفلسطينية، فقبلت بوثيقة الأسرى التي صدرت من داخل السجون.

أما الحديث عن المتغير في فكر الحركة فإنه يأخذنا إلى القول:
– بأنه من الطبيعي أن يشعر أنصار المقاومة بالغيرة على المبادئ والثوابت، إلا أن هذا الشعور يجب أن لا يزعزع الثقة بقيادة الحركة.
– أن القيادات من حقها أن تجتهد فيما هو غير ثابت، ولا بد أن يترك لها حيزا للمناورة ضمن ضوابط المصلحة وبما لا يخرج عن إطار الثوابت الفلسطينية.
– تحتكم الحركة في قراراتها المصيرية واجتهاداتها السياسية إلى مرجعيات قيادية عليا تقوم على العمل الشوري والعمل المؤسسي الذي يضمن مسار القرار من حيث الآليات والمضمون، وهي بذلك تختلف عن غيرها من الحركات والاحزاب في الساحة السياسية الفلسطينية التي عانت طويلا من حكم الفرد المطلق وتغييب لمؤسساتها.

– أن ميثاق الحركة قابل للتطور والنمو والتوسع بما يكفل الحفاظ على الثوابت – سالفة الذكر- وذلك لأن الواقع الذي تعيشه الحركة اليوم قد طرأت عليه مستجدات لم ينص عليها الميثاق الذي صيغ في عقد الثمانينيات بألفاظٍ عامة مثل: كيفية تفعيل المادة (14) التي تتحدث عن الدوائر الثلاث (الفلسطينية والعربية والإسلامية) وما هو الموقف من الحكومات والشعوب والأحزاب الإقليمية والدولية، وما هو الموقف من المشاركة في الحكم والمفاوضات ومبدأ المواطنة، وإدارة الصراع مع العدو.

الإجابة على هذه التساؤلات لم تمكث طويلاً بعد أن خاضت حركة حماس اللعبة السياسية وفازت بأغلبية في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، فأصبحت أمام واقع لم تجده مؤصلاً في ميثاقها اللهم إلا بألفاظٍ عامة، فأدركت ثقل المسؤولية التي حمّلها إياه شعبها وبأنها ليست وحدها في الساحة فدعت إلى التوافق على "برنامج قواسم مشتركة" يضمن الحفاظ على الثوابت الفلسطينية، فقبلت بوثيقة الأسرى التي صدرت من داخل السجون والذي وقعت عليه كافة الفصائل الفلسطينية.

وهنا لا بد من القول بأن الإعلان عن الوثيقة السياسية لحركة حماس قد جاء متأخراً قياساً بالأحداث العارمة التي أصابت الساحة الفلسطينية ناهيك عن الساحة الإقليمية والدولية، إلا أن هذا التوقيت يبقى مناسباً لإرسال الرسائل الواضحة بأن حركة حماس أصبحت أكثر نضجاً، وهي جاهزة كي تلعب دوراً ريادياً لا تكون فيه بديلاً عن أحد، ودون أن يهتز عندها الثابت مقابل المتغير لتبقى مهارة تشكيل الألوان ومزجها وتوازنها هوالتحدي في الحكم على الصورة البانورامية للقضية الفلسطينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.