كلما جلست أمام الكمبيوتر لأكتب عن جايسن وعن التوحد تمرّ في رأسي مقاطع من حياتي "أنا وهو"، خاصة أني اخترت منذ البداية ألا تشمل كتاباتي علاقة أبو جايسن بصغيرنا احتراماً لخصوصيته ولأني لا أريد أن أخبر قصة لا أملك تماماً بواطن مشاعرها. في الحقيقة إن جايسن متعلق بوالده بشكل لا يصدق، يريد موافقته وإرضاءه بأي شكل، ومظاهر العاطفة التي يبديها له تخرسني، يسأله: كيف كانت سفرتك؟
كيف كان يومك؟ هل تشعر بالتعب؟ بينما المخلوقة التي تكتب هذه السطور لا يسألها إلا ماذا طبخت وأن تضع له كلمة السر كلما أراد شراء لعبة للأيباد! حسنا، أنا أبالغ بعض الشيء، ولكني اعترف أن أبو جايسن يتفوق عليّ بأنه يسمح بتناول البيتزا أكثر مني ويشتري الألعاب مهما كان ثمنها فيما أنا أفرض على جايسن أن ينتظر ليجمع الدولارات لشرائها.
مع تقدم تجربتي الحياتية أدركت ببطء أن معظم الأشياء ستكون على ما يرام ولكن ليس كلها، تماماً كما تقبلت أن بعض المعارك التي خضتها بشرف واستبسال انتهت مع ذلك بالخسارة. |
في الحقيقة، إن موضوع المال هام جداً، إذ لا يجب أن ينظر أهالي أطفال التوحد إليهم وكأنهم سيبقون أطفال طول العمر، إنما يجب أن يستشرفوا مستقبلهم كمراهقين وبالغين بحياة مستقلة وخيارات مالية وصحية. منذ سن الخامسة، بدأت آخذ جايسن إلى السوبرماركت وأريه ما نشتريه وأستغل حبه للأرقام لأسأله أيّها أرخص؟ ولماذا نشتري هذه وليس تلك؟ وعلّمته أن يبحث عن كمية السكر والملح والدهون في البطاقات التعريفية الملصقة على المنتجات التي نشتريها وأناقشه حولها. أحيانا يلعب ذلك ضدي، عندما نكون في مكان عام ويرى صغيري سيدة ممسكة بعلبة مقرمشات البطاطا ويخبرها بصوت عالي وبراءة أنها ليست جيدة بل مليئة بالملح والزيوت!
هذه الاستراتيجية تنطبق على موضوع شراء الألعاب أيضاً، فإذا أراد لعبة ثمنها عشرة دولارات عليه أن ينتظر عشرة أيام وأعطيه دولاراً في اليوم ليجمع المبلغ، وإن قام بأداء مدرسي أو منزلي جيد أضيف دولاراً جديداً لها كجائزة. أظن أن هذا المنطق التربوي جيد سواء كان الطفل نموذجي أو متوحّد.
في سياق آخر، وخلال رحلتي الخاصة للشفاء من حالة الكآبة التي رافقتني منذ اضطراب جايسن، حصل تقدم لطيف مضحك ومبكي في بداية هذا العام بطله حذاء! فمنذ خمس سنوات تقريباً، توقفت عن ارتداء الكعب العالي وكان السبب الأكبر لذلك حاجتي لمجاراة ابني جايسن والركض خلفه وحمله عندما يرفض المشي. ربما لا تعرفون، لكن الطفل المصاب بالتوحد يستطيع عملياً المشي ولكنه في حكم المقعد نظرياً إذ أنه قد يرفض في أي لحظة التقدم ويرتمي أرضاً رافضاً التحرّك أو الانتقال خطوة واحدة. قد يكون ذلك بسبب شيء من حوله استثار حواسه وأجبره على حماية نفسه بهذه الطريقة، أو بسبب التعب من جرّاء الوهن العضلي الذي يعود لطبيعة الاضطرابات العصبية. وهذا ما كان يحصل مع جايسن في سن الثانية قبل أن أفهم ما الذي يزعجه وأتعلم كيف أتفاداه، علماً إني ما زلت حتى اليوم استعمل عربة له في تنقلاتنا في المطارات.
ضحّيت بارتداء الكعب العالي إذاً واخترت لبس الأحذية المسطّحة المريحة والرياضية، ومع مرور السنوات الأولى من حياة جايسن أصبح عزوفي عن انتعال الأحذية العالية رمزاً من رموز كفاحي ضد التوحد. لا أفهم كيف ارتبط هذا الأمر سيكولوجياً بكل الاشياء الأخرى التي فعلتها لمساندته، كالتحاقي بدورات تدريبية للعناية بمصابي اضطراب التوحد، وتعلّم مهارات التدخل عند نوبات الغضب والإسعافات الأولية ومهارات فنية للعلاج بالفنون وكل ما قد يخطر ببالكم، ولكن في المرات النادرة التي لبست فيها كعباً عالياً في السنوات الماضية كنت أصاب بالدوار وأكاد أهوي أرضاً ويتآكلني ذنب فظيع.
تصالحت مع فكرة أنه رغم تمسكي الشديد بالأشياء فهي قد لا تترك لي إلا خيار إفلاتها، وهذا يدعى قبول وليس استسلام وهو ضروري وإلزامي للشفاء. |
في بداية العام الحالي ومع احتفالات العام الجديد، فاجأني والد جايسن بدعوة مجموعة من الرفاق احتفالاً بعيد مولدي، كان الأمر معدّاً ليكون مفاجأة ولكن في الدقيقة الأخيرة أنبأني أبو جايسن أنه سيكون هناك حفل صغير. ترافقت بداية هذا العام أيضاً مع تعرضي لنكسة إنسانية أثرت جداً بأعصابي ورأيت أن فكرة الإحتفال تبدو عادلة، وهكذا اجتمعت فجأة كل العناصر المناسبة، ومن دون تفكير دخلت خزانتي وسحبت فستاناً وفتشت بين أحذيتي واخترت أعلاها. وضعت قدميّ في الحذاء الأسود باستغراب ولكن بفضول، هممت بالوقوف واستندت إلى الحائط ثم رفعت كتفي وبدأت المشي ذهابا وإياباً في غرفتي.. أحسست بانتصار جميل، ابتسمت ثم ضحكت وضحكت.. غريب فعلاً ما تفعله سنتيمترات معدودة في قدمي المرأة برأسها!
بعد كل هذه السنوات ارتديت كعباً عالياً ودخلت صالة العشاء بخفة فراشة ويدي بيد جايسن، كان الجميع يبارك لي بالسنة الجديدة وبعيد مولدي وتطايرت كلمة "مبروك" كما يحصل في هذه المناسبة ولكن وحدها نظرات أبو جايسن لي كانت تنطق بالمبروك الحقيقية. مبروك لي شفائي أخيراً من ذنب لم أرتكبه ومن جلد نفسي على اختبار وضعتني الحياة فيه لأصبح إنسانة أفضل وأعلو أكثر من دون كعب.
في النهاية، إن الشفاءات الكبرى تبدأ بإشارات صغيرة، والشفاء قد لا يعني أن الضرر لم يحصل ولكنه يعني أن هذا الضرر لم يعد يدير حياتنا. مع تقدم تجربتي الحياتية أدركت ببطء أن معظم الأشياء ستكون على ما يرام ولكن ليس كلها، تماماً كما تقبلت أن بعض المعارك التي خضتها بشرف واستبسال انتهت مع ذلك بالخسارة. لقد تصالحت مع فكرة أنه رغم تمسكي الشديد بالأشياء فهي قد لا تترك لي إلا خيار إفلاتها، وهذا يدعى قبول وليس استسلام وهو ضروري وإلزامي للشفاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.