شعار قسم مدونات

خفّة الكائن التي لا تُحتمل

مدونات - كونديرا

بدأت رحلتي إلى عوالم كونديرا بمجموعته القَصَصية غراميات مرحة، وتلتها روايته "خفة الكائن التي لا تُحتمل" أو كائن لا تُحتمل خفته التي كتبها باللغة التشيكية سنة 1982، إلاَّ أنها نُشرت بالفرنسية بعدها بسنتين وهي الرواية التي ذاعت عن طريقِها شُهرته الأدبيّة.
 

في قراءتي لرواية خفة الكائن التي لا تٌحتمل بدا لي أنّ جانباً كبيراً ممَّا يَشغَلُ كونديرا هو عبثية الوجود ودوافع الاستمرار، علاقته بكلّ المُحيطات موازين الخفّة والثقل ومسائل معقدة مثل السموّ والمصير الفردي والروح وما وراء المعرفة العقلية..
 

ولسنا نُريد أن نُطيلَ في سرد الأفكار التي أودعها المؤلف كتابه هذا، فإنّ هذه المواضيع غنيّة عن الإجمال. وإنّما أريد أن أعرض لمسألتين رئيسيّتين: إحداهما تتعلّق بأساس الموضوع الذي سُمِّيَ الكتاب باسمه. والثانية تتعلّق بالروح والجسد والتي جعل منها -المسألة- الكاتب مصدَرَ الحركة من البدء حتى النهاية، وقد قال أنها كانت تُحاول أن تَرى ذاتها من خلال جسدها.
 

صدق كونديرا حين وصف حياتنا على أنها ليست إلاَّ امتداداً لحيوات أبوينا. وكانت هذه الفكرة أشدُّ كوابيس تيريزا وطأةً. وما يجعل من هذا كابوساً بالنسبة لها ليس كُرهُهَا لأبويها، وإنما جرّاءَ الأفكار التي حاولت الأمّ غرسها فيها.

أمّا المسألة الأولى، نعلم كلُّنا ولا ريب أن العالم أو الكون إنَّما هو عبارة عن صراع دائم بين الخير والشرّ وبشكل مُفصَّلٍ الخصام بين الشيطان والملاك أو الحرب والسلم.. كذلك جعل كونديرا موضوعَ كتابه الرئيسيّ مفاضلة بين الخفّة والثّقل وهو عنوان مباحثه أيضاً. وعَمِلَ في هذا المقام على تغيير الفكرة السّائدة والمتّفق عليها ألاَ وهي أفضليّة الخفّة على الثّقل.
 

حسب اعتقادي أنّ الكاتب يَرمي بفكرة الخفّة هذه إلى التّحرّر الكامل التّامّ ورغبة المرء وسعيه الدائم لكسب الحرية "الخفّة"، لكن ما إن يتطرّق إليها حتّى يَشعُرَ بفراغ لا يَلبث إلاَّ وتَحَوَّلَ هذا الفراغ إلى مأساة لا تُحتمل. فأراد كونديرا أن يُوضّحَ أنّ الحرية الكليّة التامّة للفرد لا تُعتَبر حلاًّ وإنّما هي عبءٌ عليه.
 

وأستحضر في هذه المناسبة برتراند راسل الذي حَمَل فوق كتفيه كلّ آلام وهموم البشريّة جمعاء سأله شاب يوما قل لي يا مستر راسل ما هو أكبر عبء يحمله الإنسان في هذه الحياة؟ أطرق الفيلسوف يُفكر ثم قال عندما يَشعر الإنسان يا بُنيّ أنه لا يحمل عبئاً على الإطلاق! فالفراغ هو أضخم حملٍ في حياة الإنسان رجلاً كان أم امرأة.
 

وخلاصة ما خَرَج به كونديرا هو أنّ الخفّة سالبة في حين اعتَبَرَ الثّقل موجباً وإن لم تكن فعلاً هذه هي النتيجة الحقيقية فيَسَعني القول أنّ الخفة كانت أضعف الجانبين. أمّا المسألة الأخرى وهي مسألة الروح والجسد، ولك أن تقول أنّ الكاتب لم يكن مُراده وضع مفاهيم علميّة خاصة به وإنّما تفسير الصّراع الشائك بينهما من خلال عُقدة نفسيّة تتمثّل في إحدى أبطال الرواية وهي (تيريزا). ومن هنا يُلاحظ القارئ قدرة وبراعة كونديرا على الإمعان في أعماق ودواخل النفس البشريّة. حتّى أنّ بعض القرّاء شبهوا هذا العمل بأعمال دوستويفسكي.
 

وقد صدق كونديرا حين وصف حياتنا على أنها ليست إلاَّ امتداداً لحيوات أبوينا. وكانت هذه الفكرة أشدُّ كوابيس تيريزا وطأةً. وما يجعل من هذا كابوساً بالنسبة لها ليس كُرهُهَا لأبويها ولا سيّما أمُّها وإنما جرّاءَ الأفكار التي حاولت الأمّ غرسها في تيريزا، فكانت تقول لها أنّ الكون ليس إلاَّ مُعسكراً لأجساد مُعتَقَلَةٌ لا تُرى أرواحها، ولكنّ تيريزا كانت راغبة في ألاَّ تكونَ جسداً مثل سائر الأجساد بل كانت تسعى إلى السموِّ بنفسها وروحها.
 

قَلَبَ ميلان كونديرا الموازين وجعل للثقل والعبء أفضليّةً على الخفّة والتحرّر وجعل للروح سلطاناً على الجسد في زمنٍ باتَ فيه الجسد معيارَ قيمة للإنسان بل وحتّى تجارةً!

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان