شعار قسم مدونات

الإلحاد من البوابة الأدبية

blogs- book
لدي قبعتان صغيرتان بحجم رأسي، قبعة شاعر، وقبعة باحث في الفكر. في هذا المقال، ألبس قبعتي الثانية، مع علمي أن ذلك قد يُعدّ انتحاراً أدبياً! أقول.. في جلساتنا الأدبية الأسبوعية في رابطة الأدباء في الكويت، كنّا نلتقي شعراء وأدباء وروائيين شباب، نتلو نصوصنا على مسامع بَعضنا مع تبادل الإشادات والنقد. وبسبب التنوع الفكري للمجموعة، كانت الجدلية الحداثية الكلاسيكية حاضرة دائما في النقاش حين يطرح أحد الأدباء نصاً فيه ما يتعرض لمقام الألوهية أو يخدش الحياء، فينبري له البعض بتسجيل موقف فكري مُربكا علينا الجو الأدبي. كنت أقول دائماً: للأدب حصانته. لا ينبغي للنص الأدبي أن يُحاكم فكرياً. تذوّق النص، استمتع بلغته، ودع الجدليات الفكرية لميادينها. كنت أسمع النصوص الجميلة، متجاوزاً ما فيها من شطح، متأوّلاً ما يمكن حمله على وجه بريء، وإن لم أَجِد للشطح مخرجاً، قلت: أقصاها قصيدة!

لم أكن آخذا القصائد محمل الجد، لم يكن أبا نواس وإيحاءاته الجنسية، وإيليا أبوماضي وعدميته، والحلاج ومولانا جلال الدين وشطحاتهما الربوبية – لم يكونوا- سوى حالات شعرية لا تخرج خارج إطار القصيدة. حين نحاكم محتوى نصوص هؤلاء سنختلف كثيراً، لكنه من التعسف محاكمة الشعر. إنها مشاعر الشاعر، أنّى لنا محاكمة المشاعر!

من هذا المنطلق، إضافة إلى المبررات التقليدية المعروفة التي تستشهد بغزل كعب في حضرة النبي ﷺ، وعفو سليمان بن عبد الملك للفرزدق حين همّ بجلده لقوله "وبتً أفضً أغلاق الختام" فقال الفرزدق "وأنهم يقولون ما لا يفعلون"، وكلمة شاعر العلاقات الغرامية عمر ابن أبي ربيعة ساعة احتضاره: "والله ما عملت فاحشة قط"، أقول من هذه المنطلقات، خُلع السقف للشاعر، وصار أعذب الشعر أشطَحُه!

لا يمكن فصل المجال الشعري عن الفكري. النص الأدبي الذي يتسلى القارئ فيه سيعتنق أفكاره مع طول الملازمة. هناك حالات من الإلحاد والعدمية والربوبية دخلت من بوابة الأدب.

كنا نتعامل مع الشعر باعتباره مجالاً فريدا لا يدخل في مجالاتنا الفكرية الجادة، فالفكرة الشعرية للشاعر لا تعني بالضرورة تَبنِّيه لها حقيقة، فالشاعر قد يلقي قصيدة يتقمص بها دور مولانا جلال الدين في بحثه عن الطُرق إلى الله، ثم في اليوم التالي يكتب مقالة علمية في وجوب غرس العقيدة الصحيحة في قلوب الأبناء! أو يعيش دور إيليا أبو ماضي وحيرته تجاه الأسئلة الوجودية الكبرى، ثم يذهب إلى المسجد للصلاة ويستفتي الإمام عن رأي المالكية في حكم ذبح أهل الكتاب. الحمدلله، شاعرنا لا يزال مؤمناً على المنهج، ولا عتب على شطحاته طالما كانت في إطارها الشعري. لكن السؤال: هل يظل الشعر في إطاره الشعري؟

الشعر يخاطب الوجدان، والفكر/العلم يخاطب العقل، والإنسان يستجيب لمن؟ هل يمكن للإنسان الفصل بين المجالين؟ هل يمكنه أن يقول: هذا مجال الشعر، نلهو فيه باللغة، ونسلي به الوجدان، أما القناعات فتستجيب لداعي العقل والحجة والبرهان؟

الإنسان لا يستجيب لداعي العقل وحده، فقناعاته تتشكل من جملة المشاعر والعواطف والعوامل النفسية، لذلك، كانت التربية مزيجاً بين التعبئة العاطفية والتعليم الفكري والتدريب العملي مع المداومة والملازمة. لذلك، كثير من الحالات الشعرية، تحولت لحالات فكرية. ألحد بعض الشعراء والمتأثرين بالمدرسة العدمية (التي ترى أن معنى الحياة معدوم ولا حل لمشاكل العالم) والمدرسة النسبية (التي ترى أن لا حقيقة ثابتة في الوجود) والمدرسة الربوبية (التي تؤمن بالله وتكفر بالأديان). وقد كانت هذه الأشعار تلمح بهذه الأفكار بصور فنيّة أخّاذة يصفق لها الموافق والمخالف، بل هي أجمل مافي القصيدة! لأنها تعبر عن حالة نفسية تمثل لحظة شك وتساؤل، يتسامى المتذوق عن نقد مضمونها، حتى ألِفها وتشرّبها وانتقلت من مجاله الوجداني إلى مجاله الاعتقادي.

هذا كلام قد يبدو تقليديا، ويتلقاه المحيط الأدبي ثقيلا سامجاً على مزاجه الشاعري. فهو أشبه بدخول واعظ على مجلس شعراء مفسداً عليهم سمرهم. أما أنا فلا أحسن الوعظ، وسأضع الإشكال بكل برود دون توجيه أو وصاية: لا يمكن فصل المجال الشعري عن الفكري. النص الأدبي الذي يتسلى القارئ فيه سيعتنق أفكاره مع طول الملازمة. هناك حالات من الإلحاد والعدمية والربوبية دخلت من بوابة الأدب، تماماً كما يغيَر الفن والسينما شخصياتنا. فهو يجري لنا عمليات تطبيع normalization مع أفكار وسلوكيات، نتجاهلها خلال المطالعة، لأنها مجرد فن. الإشكال بالطبع ليس جديداً، وبالرغم أنه أُشبع نقاشاً فقد ملّ المتباحثون فيه، حتى تركوه دون حسم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.