يتفرّد موقع "تويتر" بكونه وسيطاً للتدوين متناهي الصّغر (microblogging)، يفرض على المدوّن تحدّي الاختزال، أو صياغة الفكرة في قالب مختصر يراعي الشكل والمضمون في آن.
ينبغي للمدوّن/المغرّد أن يكافح لعرض فكرته من دون حاجة إلى كتابة كلمة (يُتبع) التي تشي بالضّعف، ومن دون إلصاق الكلمات ببعضها، أو الاستغناء عن علامات الترقيم المهمّة، كالنقطتين الرأسيتين المؤذنتين بتفصيل بعد إجمال، أو نقطة آخر السّطر التي تشير إلى انتهاء التدوينة/التغريدة.
ربّما يعدّ بعض المدوّنين ذلك دقّة لا لزوم لها، لكن دعونا نتذكّر أنّ الشكل مهم بقدر أهميّة المضمون، وأنّ الجمال لا يشتمل فقط على الجوهر، بل على المظهر أيضاً. قد تكون الفكرة جميلة حقاً، لكن الشّكل الذي تقدّم به يشوّه جمالها (مظهر الإنسان مهم لإثارة الإحساس بالقبول أو الانجذاب، حتى أطباق الطعام تُقدّم وعليها ما يزيّنها من الخضراوات أو البهارات أو المكسّرات من أجل فتح الشهيّة).
المدوّن المؤثر، كما في كل الاتصال، هو الذي يحقّق توقّعات الجمهور. تويتر، كغيره من بيئات الاتصال، يحتّم علينا الاستجابة لنبض المتلّقي |
إنّ نشر تدوينة "مرتاحة" من حيث مراعاة نقاطها وفواصلها، والمسافات بين كلماتها، ومن حيث إرفاق رابط مادّة ما أو صورة حقيقية أو رمزيّة معها-كل ذلك يُفسّر بوصفه جزءاً من الرسالة، ويمنحها التأثير الذي يسعى إليه المدوّن.
صياغة التدوينة تحدٍّ آخر. المدوّن مدعو إلى سبك الفكرة في قالب جذّاب من حيث الشمول واللغة والتوثيق. ليس مقبولاً أن تشتمل التدوينة على مزاعم مثيرة للشك تفتقر إلى دليل يحظى بصدقيّة، وليس مقبولاً أن تتضمّن تصريحاً غريباً أو خطيراً من دون عزوه إلى مصدر موثوق، وليس مقبولاً أن يغرّد المدوّن دائماً بلهجة محكيّة، أو بعربيّة ملأى بأخطاء لغوية و/أو إملائية.
في الحديث: "إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه"- الإتقان "شيّب" عبد الملك بن مروان فقال: "كيف لا يعْجَل إليّ الشيب وأنا أعرض عقلي على الناس كلّ جمُعة"، وقد أوصى بشر بن المعتمر بالعناية بالأسلوب قائلاً: "من أراد معنى كريماً، فليتلمس له لفظاً كريماً، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظُ الشريف"، وقبل ألفَيْ عام أهاب بنا أرسطو: "ليس كافياً أن يعرف المرء ما ينبغي أن يُقال، بل يجب أن يقوله كما ينبغي".
الإيجاز من أهم خصائص التدوين، وقد اهتمّ به العرب حتى عدّوه تعريفاً للبلاغة نفسها، فقالوا: "البلاغة الإيجاز". في الحقيقة، التغريد على طريقة "تويتر" ليس غريباً تماماً عن ثقافتنا العربيّة. والمتتبّع لخطب أكثم بن صيفي التميمي يلمس القدرة على عرض الفكرة الواحدة في عبارات قويّة ولافتة، ومن ذلك مثلاً قوله: "أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمّها نفعاً، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها، الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشرّ لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء، آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر، حسن الظنّ ورطة، وسوء الظن عصمة، إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، من فسدت بطانته كان كالغاصّ بالماء…."، وللنصّ بقيّة فيها هذا الإيقاع الجميل المدهش نفسه.
ويكشف فن "التوقيعات" الذي عرفته العرب، لاسيما خلال العصرين الأُموي والعبّاسي، شكلاً من أشكال التدوين المصغّر الذي يقول الكثير بكلمات قليلة. كان الخلفاء والسلاطين يعلّقون بهذه "التوقيعات" على الخطابات التي يتلقّونها من ولاتهم، وعرّفها ابن خلدون بقوله: "…أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله، ويوقّع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها، متلقّاةً من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه…".
من أمثلة التوقيعات أنّ ربيعة اليربوعي كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يطلب منه إعانته على بناء دار له في البصرة باثني عشر ألف جذع من النخل، فكتب إليه معاوية: "أدارك في البصرة، أم البصرة في دارك"؟ ومنها أنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى عبد الملك بن مروان يستأذنه في قتل أشراف أهل العراق بسبب قلة طاعتهم له، فردّ عليه: "إنّ من يُمن السائس أن يُتألّف به المختلفون، ومن شؤمه أن يَختلف به المؤتلفون"، ومنها أنّ قتيبة بن مسلم كتب إلى سليمان بن عبد الملك يهدّده بالخلع، فوقّع على كتابه ببيت جرير: زعم الفرزدقُ أن سيقتلُ مربعاً/أبشرْ بطول سلامةٍ يا مربعِ!
ومنها أنّ عمر بن عبد العزيز كتب لوال من ولاته اشتكى نقص الجزية بسبب إقبال النصارى على اعتناق الإسلام: "إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً"، كما كتب لأمير حمص بعد أن طالب أهلُها بإصلاح حصنها: "ابنها بالعدل، ونقِّ طريقها من الأذى"، وكتب المنصور إلى والي مصر لمّا اشتكى إليه نقص ماء النيل: "طهّر عسكرك من الفساد، يعطِك النيلُ القياد"، وعلّق الرشيد على "نكبة البرامكة" في عهده: "أنبتتْهم الطاعة، وحصدتْهم المعصية"، وكتب المأمون إلى عامل له كثرت الانتقادات الموجّهة إليه: "قد كثر شاكوك، وقلّ شاكروك، فإمّا اعتدلت، وإمّا اعتزلت".
وهكذا، فالإيجاز المصحوب بقوّة العرض والاتّكاء على القيم ثقافة عربيّة ارتبطت بازدهار اللغة، ولو كان "تويتر" موجوداً قبل ألف عام، لكان مصدراً غنيّاً بتدوينات عربيّة رائعة.
من أخلاق التدوين في موقع "تويتر" نسبة النصّ إلى قائله. كثير من المدوّنين "يسطون" على إنتاج غيرهم بطريقة أو بأخرى، وبالرغم من كثرة انكشاف هذا السلوك، فإنّ الموقع لا يكاد يخلو كلّ يوم من منتحل. "إن سمعتَ من صاحبك كلاماً أو رأياً يعجبك"، كتب ابن المقفّع، "فلا تنتحله تزيّناً به عند النّاس، واكتفِ من التزيّن بأن تجتنيَ الصواب إذا سمعتَه، وتنسبَه إلى صاحبه، واعلم أنّ انتحالك ذلك سخطةٌ لصاحبك، وأنّ فيه مع ذلك عاراً، فإن بلغ ذلك بك أن تشير برأي الرجل، وتتكلّم بكلامه وهو يسمع، جمعتَ مع الظلم قلّة الحياء…".
يحدث كثيراً أن أواجه في "تويتر" من "يسطو" على تغريداتي، وأعلن احتجاجي على الملأ، فيخرج أقوام يطالبونني بالتضحية وإنكار الذات، فأصبح الجاني وأنا الضحيّة، وأذكر أنّ مدوّناً شهيراً نشر بيتين لي، ولم يكتب اسمي مع أنّه كان يستطيع ذلك، وأمطره متابعوه برسائل الإشادات: "صح لسانك"، وهو ساكت لا يعلّق، فلما اعترضت على ذلك، قال إنه لم يقصد، وطالبني بإحسان الظن، فغرّدت قائلاً: هذي الحروف حروفي كيف أتركها/لعابثٍ همّه حصدُ النجاحاتِ/حرٌّ أنا وعزيزٌ مثل قافيتي/ولستُ أسمحُ أنْ تُحتلّ أبياتي.
من المهم أن يراعي المدوّن "الحال الاتصالية" في التدوين، فيختار الموضوعات المناسبة للزمان والمكان والسياق. المدوّن المؤثر، كما في كل الاتصال، هو الذي يحقّق توقّعات الجمهور. تويتر، كغيره من بيئات الاتصال، يحتّم علينا الاستجابة لنبض المتلّقي، وقد عرّف العرب البلاغة بأنّها "مراعاة مقتضى الحال"، وقالوا: "لكلّ مقام مقال". لكن يحدث كثيراً في "تويتر" أن يُساء فهم تدوينة ما، ويُطالب كاتبها بتوضيحها أو الاعتذار عنها، وهو موقنٌ بصدقيّتها. كن واثقاً من نفسك، وقف خلف روايتك، ولا تلجأ إلى تفسيرها أو الدفاع عنها.
قد يلجأ المدوّن إلى حظر المسيء، وهو حقّ من حقوقه يمارسه عندما يتعرّض لانتحال شخصيّته، أو تهديده، أو السخرية منه |
تذكّر أنّه مهما حاول صاحب نصّ أن "يُتقن" صياغته، سيأتي من "يلويه" ويشوّه معناه. المتنبي أخبرنا عن هذا الأمر: وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً/وآفتُه من الفَهم السقيم/ولكن تأخذ الآذانُ منه/على قدر القرائح والفهومِ، والبحتري هاجم من يصرّون على إساءة فهمه: عليّ نحتُ القوافي من معادنها/وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ! قد تجد نفسك تحت ضغوط شديدة من متابعين يطلبون منك تناول قضية ما، ويتوقّعون أن تعلّق عليها بما في نفوسهم غير مدركين أن فلسفة الوسائط الاجتماعيّة قائمة على "البوح". تجاهل ذلك. كن أنت. كن نفسَك. لقد خلقك الله أصلاً، فلا تمت وأنت صورة، كما قال الناقد الأميركي، جون ماسن براون.
من خصائص "تويتر" إعادة نشر إنتاج الآخرين (الريتويت)، وهي عملية ديناميّة تُثري المعرفة وتُضفي التنوّع. قد يكون (الريتويت) تعبيراً عن الصداقة، وقد يكون دعماً لحساب صديق، أو مبادرة حسن نيّة تجاهه. أمّا الامتناع عن نشر تغريدات مدوّن ما، فقد يحمل دلالات سلبية كالحسد، النفور، عدم الاقتناع، الخوف من التصنيف الإيديولوجي، أو الخوف من التّبعات السياسية.
وبالرغم من أنّ كثيراً من مدوّني "تويتر"يعلنون على صدر صفحاتهم أنّ "إعادة النشر لا تعني الموافقة على المنشور بالضرورة"، إلا أنّ معظم روّاد الموقع لا يأخذون ذلك على محمل الجد، ويفسّرون (الريتويت) غالباً بوصفه تبنّياً أو إعجاباً. ثمّة من يطلب منك نشر تدويناته، بينما لا يروقه أن تطلب منه الشيء نفسه، وهو سلوك غير "تبادلي" قائم على الاتصال من طرف واحد.
الإعراض عن الاستفزازات أو القصص غير المناسبة من أخلاق "تويتر" أيضاً، وهو سلوك نبوي كريم ورد في سورة التحريم: "عَرّفَ بعضَه وأعْرَضَ عن بَعْضْ"، وقد سمّاه العرب "التغافل"، وقال عنه أحمد بن حنبل إنّ فيه "تسعة أعشار حسن الخُلُق". لكن قد يلجأ المدوّن إلى حظر المسيء، وهو حقّ من حقوقه يمارسه عندما يتعرّض لانتحال شخصيّته، أو تهديده، أو السخرية منه، كما أنّه سلوك إيماني وحضاري يستجيب لقوله تعالى "وأعرض عن الجاهلين".
قصة تويتر لا تنتهي. إنه عالم من الإبهار والجذب، علاقات تنشأ وتذبل، تجارب سعيدة وحزينة، مبادرات يأخذ زمامها المهمَّشون ليقارعوا بها أصحاب النفوذ. تويتر جزء من الحياة، والحياة تحتاج إلى صبر، وإلى أخلاق أيضاً، لكنّ من المهم أن نتذكر أنّ لدى ثقافتنا العربيّة/الإسلامية الكثير مما تخبرنا به عن التدوين في هذا الموقع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.