شعار قسم مدونات

وأيّةُ ثقافة؟!

blogs- الوقت
هل أنتَ إنسان منظم؟ وترتبُ جدولكَ اليوميَّ كلَّ صباح؟ لا تحبُ التّأخير؟ تكرهُ أن تكون مهملاً؟ حسناً، أنتَ تعاني من مرضٍ مستعصٍ.. هل أكررها؟! أجل، أنت مريض.. هكذا سيصنفكَ مجتمعٌ يحيا بثقافةِ التأخيرِ ويمجدُ الإهمالَ ويعظّم الفوضى والفشل!.


لعلَّ الذين سيتعاطفون مع المواقف القادمة هم أناسٌ عاشوا نفس التجربة ويملكون نفس التفكير، ولهؤلاء أقول الله مولانا ومولاكم في هذهِ الحياةِ الدنيا.


المراتُ التَّي اتفقت فيها على موعد مع أشخاص مختلفين لا عدَّ لها ولا إحصاء، ولكنَّها تشترك في أنّي أكونُ أول الحاضرين..  يأتي الشخص الآخر بعد خمس دقائق.. يليه آخر بعد ربع ساعة من الموعد الأصلي.. ننتظر ليأتي ملكُ الجلسةِ بعد نصف ساعة وغالباً ما نجتمع دونه.. انتظروا لا تضعوا له عذرا فهو جاء وعذره معه " راحت عليّ نومة!" وغالباً يكون قد نسي أمرَ الاجتماع أو العمل فيذكره أحدنا حين يراه.. وهذا الشخص تحديداً حذار حذار أن تعاتبه سيتهمك أنك "تعقد الأمور" و"غير مرن" وسيضيف وصف "مفلسف"!


غالبيةُ الأشخاصِ الذين يجري التأخيرُ والإهمالُ فيهم مجرى الدم لا يعتبرون أنهم أخطأوا ولا يرون في ذلك عيباً.. بل إنهم يتفاخرون بذلك، ويحاولون إقناعك أن تأخيرهم هذا جزء من المنظومة الكونية وأحكام المجرة المفروضة علينا ولا يمكن تغييرها.

غالبيةُ الأشخاصِ الذين يجري التأخيرُ والإهمالُ فيهم مجرى الدم لا يعتبرون أنهم أخطأوا ولا يرون في ذلك عيباً.. بل إنهم يتفاخرون بذلك، ويحاولون إقناعك أن تأخيرهم هذا جزء من المنظومة الكونية وأحكام المجرة المفروضة علينا ولا يمكن تغييرها! فهم يرون أن قدومهم المبكر انتقاص من مكانتهم ومخالفة لقيمهم وعاداتهم، أما الحل لسلامةِ قُلوبنا ودوامِ صحتنا هو الابتعاد قدر الإمكان عن هؤلاء الأشخاص وعدم التعامل معهم.. وهل أبالغ لو قلت فلنستحدث بنداً للشكوى لدى الشرطة.. شكوى عن تأخير!


وكانَ الله في عونِ مدرسِينا في الجامعات حين يدخل طالبٌ ما المحاضرةَ بعد نصف ساعة من موعدها بحججٍ واهيةٍ تدعم ثقافة "أتأخر.. إذاً أنا محترم".

-لم لا تخرج بوقت أبكر حتى تصل على موعد المحاضرة؟!
-آتي وأجلس أنتظر ربع ساعة قبل وقت دوامي؟ أُفَّضل التأخير على أن أنتظر بدء المحاضرة!


ولا كلمات تصف شعوري وحالتي النفسية حين أرى المهام تتراكم علي، وأبدأ بنعت نفسي بأني "مهملة" .. يا الله ما أقسى الوصف على قلبي!.. لكن ما علمته أنه في بقاع هذه الأرض تحيا أقوامٌ يجالسون بعضهم.. هذا يخبر هذا بما أهمله في هذا الأسبوع.. فيرد عليه الآخر " هذا لا شيء!.. انظر في ماذا أهملت أنا!".. لا، ليست المشكلة هنا يا أحبتي.. المشكلة أنهم يهزأون من التزامك وانتظامك في أعمالك.. أهل الإثم يعاتبون أهل الحسنة فيما أتوا.. فلا حول ولا قوة إلا بالله!


وأعان الله أصحاب الدقيقة الأخيرة، ففي الجامعات يكثر العمل الجماعي وتأخذ غالب الواجبات الطابع الجماعي، ولعلها كارثة تلك في ظل مجتمع يواجه سوء فهم لهذه الأعمال.


المشهد الأول:

-فلننجز العمل في تمام الثانية ظهراً.

– تسليم الوظيفة متى؟
-اليوم في تمام السادسة مساءً.
-حسناً، أنا سأنجز مهمتي في الثامنة والنصف غداً! وسأحدث المدرس والتمس منه عذراً!
-لم التأخير؟
– لا وقت لدي الآن.

المشهد الثاني:
– سننجز عملنا عند الواحدة.
-لا، بل في الواحدة والنصف.
-هل هناك سبب؟
– لا، ولكن في الواحدة والنصف أفضل.


ما الضير لو أعددت كل يوم وريقة صغيرة لأهم أهدافك اليوم؟ ليس شرطاً أن يكون مجلد مهمات بل مهمات قصيرة ومنطقية تحفظ ليومك نكهة الإنجاز وتريحك من إرهاق التفكير في قائمة مهام طويلة ومؤجلة.. كل مشاكل التأخير والإهمال تنتهي عندما نضع هدفاً ونسير عليه.

حوار روتيني، يدور خلال أدائنا أعمالنا كثيراً، والحجة أنه لا وقت لصاحبنا كثير العمل فهو يؤجل ويؤجل بلا هوادة ودون أن يعمل حتى عند تأجيله فتراه يختار موعداً أولاً وثانياً وثالثاً، هذا الشخص الذي لو جئت إلى ما يعمل في وقته فهو محتار بين أيهما يلعب كانسة الألغام أم أوراق الشدة! ولعله يحسب نزهة ًعائلية لا يستطيع التخلي عنها أنه انهماك بالعمل، وهذا ما يسميه انشغالاً! أعظمُ مصيبة قد تَنزِلُ بالمرء وقيمه هو اختلال ميزان الأولويات لديه، ورؤيته في أن الكون يتمحور حوله.

فالجماعة لن تعمل إذا لم يسمح مزاجي بذلك.. والجماعة لن تتم عملها وفق المخطط طالما أنا معترض!

ثقافة ثالثة لا تقل عن أختيها سوءاً.. وهي ثقافة الفشل، التي تقوم فلسفتها على أنه كلما فشلت في أمر افتخر بفشلي وأهزأ من كل نجاح يقابله، العلامة الأسوأ في الصف هي الأكثر فخراً.. والطالب الأكثر رسوباً هو مضرب المثل في راحة البال وعدم المعاناة، والذي لا يتقن لغة حريٌ به أن يتقنها أفضل ممن يتقنها ويتحدث بها!


جميل أن ندرك مواطن ضعفنا ونتحدث عنها لنصلحها ونقويها لا أن نتخذها مثلا ونجعل من أنفسنا أضحوكة للجميع ومضرب المثل وقدوة في السوء والفشل والإهمال، وإن أروع ما يكون أن تأخذ هذه الحياة على محمل الجد وأن تقسم حياتك إلى أقسام بحيث لا يطغى قسم على آخر ويكون لكل قسم وقته: قسم للجد والعمل، وقسم للراحة، وقسم للمزاح، وقسم للأمور الجادة التي لا تحتمل المزاح.


وأهم ما يكون هو وضع الهدف.. ما الضير لو أعددت كل يوم وريقة صغيرة لأهم أهدافك اليوم؟ ليس شرطاً أن يكون مجلد مهمات بل مهمات قصيرة ومنطقية تحفظ ليومك نكهة الإنجاز وتريحك من إرهاق التفكير في قائمة مهام طويلة ومؤجلة.. كل مشاكل التأخير والإهمال تنتهي عندما نضع هدفاً ونسير عليه.. والمشكلة أن غالبيتنا تعيش في مستنقع الفوضى وترضيته، وليس بيد أحد إلاكَّ تغيير موقعك من المؤخرة إلى المقدمة، ومن القاع إلى القمة، ومن جحيم العشوائية إلى جنة الانتظام.


وإنه لمن الأدب أن نلتزم بأوقاتنا وأعمالنا ومن جميل الخلق وأبهاه، ولنا في الأنبياء أسوةٌ حسنةٌ في الالتزام بالمواعيد والابتعاد عن الفوضى فقد ورد أن داوود عليه السلام كان يقول:" لاتَعِدنَّ أخاك شيئاً لا تنجزه له، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة" وقال محمد صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون منهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" فماذا نحن صانعون في أيامنا وأوقاتنا؟ هل نؤدِ ما علينا بصدق؟ أم نتجاهل ونحاول خلق سنة جديدة في الكون عنوانها الفوضى والعشوائية والكسل؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.