شعار قسم مدونات

عن بعض أسرارنا سأحدثكم!

مدونات، طبيب

الناس تحترم الطبيب لكنها أيضا في أوقات كثيرة لا تحبه، فهم يرونه جشعا طماعا بلا أخلاق وخال من الانسانية، لا استطيع أن أقول أن الأطباء ملائكة يمشون على الأرض ولا أن اقول أنهم شياطين يعيثون في المرضى فسادا، لكني لا أقبل التعميم فمن الأطباء يا سادة من في داخله اجتمعت معاني الإنسانية بل ربما أكثر.

لقد رأيت أطباء ينفقون من جيوبهم على مرضاهم ويخبرونهم أنها مساعدات من محسنين وجمعيات خيرية. رأيت أطباء يجمعون المال ويطوفون على الزملاء لشراء دواء مريض أو مستلزمات عملية جراحية. رأيت أطباء يبكون لحال مرضاهم وآخرين يبكون عجزهم عن تقديم العلاج. رأيت أطباء هواتفهم لا يتوقف رنينها فمرضاهم يتصلون ليل نهار وهم يجيبون برحابة صدر يوجهونهم ويرشدونهم. رأيت أطباء يتوسطون لتسريع الاعتناء بمرضاهم دون مقابل مادي ولا رباط عائلي. رأيت أطباء يغضبون ويقاطعون من يسيء الأدب مع مرضاهم.

أيها الطيبون من فضلكم لا تضعوا الأطباء في قالب واحد، فأكثرنا الصالحون يحبون أوطانهم وعملهم وهمهم أن يروا مرضاهم يبتسمون، أن يروهم متمسكين بالأمل، يحملون الرغبة في الحياة.

لا تعتبروا كلامنا المقتضب أحيانا ترفعا هو فقط كسب لوقت يحتاجه مريض ربما تكون حالته أكثر استعجالا، لا تعتقدوا أننا عندما نعود إلى بيوتنا ونضع رؤوسنا ننام بسلام بل تبدأ الأسئلة في طرح نفسها: هل وصفت الدواء الأنسب؟ هل بمقدور مريضي شراؤه؟ هل قمت بواجبي على أكمل وجه؟ لماذا لم أكن ودودا أكثر مع ذلك المريض، ثم لماذا غضبت بسرعة من الآخر كان علي أن أكون أكثر حلما… وغيرها من الأسئلة التي لا تنتهي.

لا تحسبوا أننا عندما نخبركم بموت أقربائكم لا نحس بحزنكم، تأكدوا أن كثيرا منا يتمنى لو يختفي لو تبتلعه الأرض ولا يلعب دور غراب الموت، حتى وإن رأيتم أننا جامدون بلا تعابير فاعلموا أننا نضمد الجراح التي انفجرت من جديد، أننا نخبئ مشاعر الأسى التي تلتهمنا، وتأنيب الضمير الذي يجلدنا سائلا بإلحاح أياما وأيام: هل هذا كل ما استطعت فعله؟

كثير منا يتساءل لماذا اخترت وظيفة تكون فيها حياة الناس بين يدي (رغم أن الأعمار بيد الله وحده سبحانه)؟  لماذا وظيفتي هي أن أرى معاناة الآخرين كل يوم؟ لماذا اخترت وظيفة على مواجهة غضب الناس وبغضهم وحقدهم كل يوم؟ لماذا على أن أسهر والناس نيام؟ لماذا على أن أدرس وغيري يمرح؟ لماذا لا أستطيع بناء الاستقرار إلا بعد أن أجاوز الربع قرن؟  يتساءل بغضب ثم تداعبه ابتسامة ذلك الطفل وامتنان ذلك العجوز وصرخة حياة ذلك الوليد وهدية مرفوضة من ذلك الفلاح البسيط، تداعب سمعه دعوات صادقة بالرحمة للوالدين والتوفيق والنجاح وأن يعصمه الله من الاسقام ووو..

يعود حينها إلى حب عمله ويغرق فيه من جديد وهو بين كر وفر بين أفكاره الواقعية السوداء والصورة الجميلة التي رسمت في مخيلته منذ الصغر عن الطبيب الخارق. أيها الطيبون من فضلكم لا تضعوا الأطباء في قالب واحد، فأكثرنا الصالحون يحبون أوطانهم وعملهم وهمهم أن يروا مرضاهم يبتسمون، أن يروهم متمسكين بالأمل، يحملون الرغبة في الحياة. عدونا الوحيد هو المرض، فلنتحد ضده ولنكن يدا واحدة على كل من تسول له نفسه أن يعتبر صحة الناس من الترف والبذخ والكماليات. من حقكم أن تنعموا بصحة جيدة، من حقكم أن تعيشوا بأجساد قوية ونفوس مطمئنة من حقكم الحياة فلا تستسلموا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.