شعار قسم مدونات

إغواء الدراما ومطرقة الواقع

blogs - مهند ونور
بين الصورة المثالية الأفلاطونية للواقع وبين الصورة المبتذلة له تسكب الدراما غسيل أيديولوجيتها، في عمق استلابنا وتلقينا غير محذور وغير مشروط في آن واحد، مستخدمة إيقاع الصورة الذي يفارق مدلوله إلا يسيرا، لكنه لا يفارق تلافيف ذاكرتنا، ليبقى مفعوله المأمول منه أن يؤديه ردحا من الزمن في اللاوعي، شئنا ام أبينا.

ويتجلى ذلك الأثر المهول وغير مباشر في حياتنا في قوانين تحكم، بل تدفع بتصرفاتنا إلى تلك الدفة التي رسمها السيناريو في أول لحظة تماهينا فيها مع المشهد وأصبحنا في عمقه وجزءا من تكوينه. إن "الدوجماطيقية" التي يوحي بها السيناريو الدرامي يجعل كثيرا من أطروحاته حتمية لكثير من المتلقين الذين لا يجدون فكاكا من أسره برضا وقناعة وتسليم، بل إن كثيرا من هؤلاء يمتلك قدرا عاليا من الاستعداد للدفاع عن منظومة القيم التي ورثها من خلال عدسته الخالية من أية ردة فعل إزاء ما يشاهد، وقد يصل به الاستعداد إلى التضحية بقيم البيت والأسرة والمدرسة مقابل تلك القيم المسكوبة في وعيه بسحر الصورة وإيقاعها الذي يتجاوز المس في اثره.

إن المتلقي لا يدرك مع حالات الاستغراق الدرامي المسافة التي تبعده عما يشاهد، مما قد يخلق حالة انفصام بين الواقع والمثال في الدراما فيضيع الواقع في الجري خلف الواقع الدرامي.

وتكمن معضلة الدراما أنها ليست فكرا مجتميعا يقع في إطار الاتفاق الاجتماعي؛ إذ أنها لا تعدو أن تكون نتاج تصورات فردية للروائي إن خلص العمل الدرامي من تهجينات السيناريست والمخرج والمنتج، وهو ما يعني أننا حبيسي آراء فردية قد تناقض كثيرا من القيم الاجتماعية والدينية إن لم تشكل ثورة عليها في ثوب قشيب لا يدركه المتابع العادي وقد يدركه بعد أن يفوت أوان الانتقاء.

تلك المشكلة تجعل من الدراما مشرعا للحياة بطريقة ناعمة لا تحتاج إلى جيوش جرارة، ولا إلى قمع فكري مباشر ولا إلى حوار حاد؛ فهي تلبس للمشاهد جلد الضأن من الرقة واللين، وتقدم نفسها على أنها الواقع، أو أنها الصواب الذي ينبغي أن يكون؛ فهي تقدم الفضيلة على أنها تقوقع وتزمت وراديكالية في السلوك والفكر، وبالمقابل تقدم الرذيلة على أنها حقوق فردية وحرية في التصور والتصرف، في الوقت الذي تسلب فيه الفضيلة هذا الحق.

إن تقديم البديل بعيدا عن العرض وأسلوب المقارنة هو إحدى وسائل الدراما للنفوذ وتشكيل السلطة على المتلقي، هذا الأسلوب الذي تتشارك فيه الدراما مع الإعلان التوجه لتسفر عن قضية غاية في الأهمية هي تقديم السلعة بصورة ترويجية لا تقبل الرفض، وإن كانت الدراما لا تلتزم المباشرة نفسها التي يلتزمها الإعلان، أو لا تتغيا التأثير السريع الذي يرجوه الإعلان، وإنما تعمل بوتيرة هادئة تؤتي أكلها ولو بعد حين .

نحن لا نتحدث هنا عن القالب الدرامي الذي يعد الأكثر خطرا على المتلقي كونه هو الذي يقدم الأيديولوجيا بتشويق وإثارة ينتفي معه الخوف أو الحذر، بل تسيطر من خلاله الرغبة الجارفة في التلقي على أي نحو كونه، فذاك أمره غاية في التفصيل كما غاية في الخطورة، ومنفذنا هو الأول في تلك الفكرة التي تسعى إليها الدراما وتسخر تقنياتها العالية والمتعددة لإنفاذها، لتصبح واقعا في حياة الناس وإن كانت نبتا غريبا أو دخيلا.

إن الدراما لا تلتزم المباشرة نفسها التي يلتزمها الإعلان، أو لا تتغيا التأثير السريع الذي يرجوه الإعلان، وإنما تعمل بوتيرة هادئة تؤتي أكلها ولو بعد حين.

ولعل العلاقات الإنسانية هي إحدى أهداف الدراما؛ حيث أنها تدفع بها إلى زاوية تعلو على المثالية وتجافي أو تجانب الواقع، سواء على مستوى المعنى كعلاقة حميمة تستقي ماءها من الحب العذري الاول، أو علاقة جسدية في إطار من الحشمة والرقي العاطفي.

لقد أضحت العلاقة العاطفية على يد الدراما أداة إثارة وإسفاف وإغراء، بل وإثارة الكوامن المكبوتة وتسويقها التعامل المنفلت معها على أنه السبيل الأوحد للتنفيس عنها، وفي هذا التعاطي تقف الدراما في ضفة مناقضة للمنطق الذي يجابه بقسوة الواقع والمسؤولية الفردية وتحمل التبعات على المستوى الديني والأخلاقي والاجتماعي الذي ينشأ عن الحرية المفرطة في العلاقات العاطفية وتحولها عن مسارها الصحيح.

فأصبح الحب لأجل الجسد وهو في أحسن حالاته لأجل الحب، وأصبحت مخالفة المجتمع وتخطي قوانينه وقيمه هي السبيل الوحيد لتجاوز الصعوبات في سبيل إشباع هذه العواطف، هذا إن غضضنا الطرف عن اعتبار الحب هو الجسد وما يتبع ذلك من فاترينات العرض السينمائي الذي حول المرأة في الدراما إلى "ماليكان" لا تملك من أمرها شيئا غلا أن تزين وتقدم للزبون لتثيره بأقصى إمكاناتها التي يحسن "النخاس الدرامي" تقديمها لمن يغرق أكثر في الاندماج .

تلك المشكلة تجعل من الدراما مشرعا للحياة بطريقة ناعمة لا تحتاج إلى جيوش جرارة، ولا إلى قمع فكري مباشر ولا إلى حوار حاد؛ فهي تلبس للمشاهد جلد الضأن من الرقة واللين.

وهنا يصبح الحب بين الطرفين إحدى القوالب الدرامية التي لا يكاد الدرامي أن يجاوزها إلى غيرها من القوالب؛ فهي غنية بالإغراء لطبيعة التركيبة الإنسانية التي تقوم عليها ولحالة الترهل في العلاقات المجتمعية التي تبحث عن مرفأ لتستريح من عثرات الطريق، أو لتبحث عن حل بغية تصحيح المسار في هذه العلاقات .

ومن ثم تبرز تلك الهوة الواسعة بين ما يشاهد المتعثر في علاقاته وبين ما يعايشه ليبحث عن التقمص للوضع الجديد بحثا عن البديل أو طمعا في استقامة ما اعوج في حياته. إن المتلقي لا يدرك مع حالات الاستغراق الدرامي المسافة التي تبعده عما يشاهد، مما قد يخلق حالة انفصام بين الواقع والمثال في الدراما فيضيع الواقع في الجري خلف الواقع الدرامي .. وما حال الشباب بخفي، وما الآثار الناتجة عن هذا الداء العضال ببعيدة عن كل بيت وكل زاوية تقبع فيها وسلة إعلامية تقدم الدراما بصوره المختلفة والمتباينة التأثير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.