شعار قسم مدونات

انتحار من نوع آخر

blogs - الوحدة
تأتينا في كثير من الأحيان ودون سابق إنذار، فترات كئيبة، ترمي بنا في مستنقع الحزن والبؤس، تجعلك تشعر بتسرب جرعات الألم في كل أعضاء جسمك، فتجد أن شفتاك غير قادرة على التكلم أو التبسم، ولا يداك قادرة على الحركة، بل وحتى قدماك يصيبها الوهن فتصبح عاجزة عن حملك.

أما قلبك.. فيخفق ببطء شديد، وبين نبضة وأخرى، تنطوي حكايات وذكريات تعجز عن استحضارها، أو ربما شخصك الذي بداخلك، الذي تقضي معه معظم أوقاتك، والذي لا يعرفه الآخرون، يرفض ذلك أصلا، لأنها لن تزيدك سوى شقاء، ولن تذكرك سوى بما يقلق راحتك.. مما سيزيد وضعك سوءا، ويفقدك السيطرة ليظهر ذلك في تصرفاتك، حركاتك، وكلماتك، فيكتشف الآخرون ما تحاول إخفاءه. ذلك أن أدمغتنا مبرمجة على التفكير وفقا لحالتنا النفسية، بحيث عندما نكون سعداء ومبتهجين، يجبر عقلنا على التفكير إيجابا، والعكس صحيح.

لا شك أن قلبك يصبح مليئا بالحقد تجاه كل ما يحيط بك، ويجعلك تنفر من الجميع ولو لدقائق أو ثوان معدودة، وتتبادر إلى ذهنك أفكار سوداء توحي لك بأن كل قوى العالم السلبية تضافرت لتسلبك مشاعرك، وتتركك دون إحساس، لا يملأ فؤادك سوى الفراغ والعدم، إذ تقف عاجزا أمام الحسم في السبب المسؤول عن حالتك تلك: أهو قلق أم خوف؟ إحباط أم خيبة أمل؟ أم فقط بكل بساطة بسبب لا شيء!

لا مستقبل واضح أمامك، لا أي من أهدافك يبدو منطقيا وواقعيا في تلك الفترة، لا حياتك تبدو كالحياة، ولا قراراتك التي اتخذتها بكل اقتناع من قبل تبدو لك صحيحة، كأنما دخلت متاهة موحشة لا مؤنس لك فيها ولا مخرج لك منها. حتى أنفاسك تجد صعوبة في لفظها، وتحس كما لو أنها تدخل لجسد ميت ساكن، لا حركة فيه تدل على أنه إنسان، بل مجرد شيء ما، لا ولن تتمكن من الجزم في ماهيته. فنحن نغادر الحياة مؤقتا في مثل تلك اللحظات، ويصبح غيابنا كوجودنا لا يحدث فرقا.

صدقني، لا أنا ولا أنت ولا الآخر نستطيع الإفلات من هذا الإحساس، لأن جهازنا النفسي يبقى متقاربا من حيث المكونات وخاضعا لنفس قوانين الطبيعة، مهما كثرت اختلافاتنا وتنوعت خلفياتنا.

تفكر أن تستنجد بأحدهم لعله ينقدك من نفسك، لكنك سرعان ما تتراجع لأنك تعرف أنه لا جدوى من ذلك، فمفعول السم الذي يجري بداخلك أقوى مما يتوقعه الجميع، إذ لا أحد سيفهم شعورك مهما تظاهر بذلك، والترياق لا يوجد بيد أحد غيرك، ولن تستطيع صنعه طالما ما زلت تجهل من أين وكيف أتى، وطالما ما زلت ساكنا في مكانك لا تتحرك !

صدقني، لا أنا ولا أنت ولا الآخر نستطيع الإفلات من هذا الإحساس، لأن جهازنا النفسي يبقى متقاربا من حيث المكونات وخاضعا لنفس قوانين الطبيعة، مهما كثرت اختلافاتنا وتنوعت خلفياتنا، ورغم أن الله خلق النفس البشرية بأسمى أوجه التعقيد، وجعلها معادلة صعبة الحل، كلما حاولت فهم خصائصها أكثر وتعمقت في دراستها، تكتشف أنك تعود دائما لنقطة البداية.

لكن ما يحدث الفرق، هو كيفية مواجهتك لهذا الألم وتعاملك معه، فإما أن تنصرف إلى الله لتنفض الغبار عن قلبك، وتصارع نفسك إلى أن تجد ما قد يعيدك للحياة، ثم تشغل نفسك بشيء مفيد وترسم ابتسامة مزيفة رغم أنفك كخطوة أولى، وإما أن تسدل ستار نافذة غرفتك، تغلق الباب، تستلقي بسريرك، وتعانق وسادتك لتنجرف في دوامة تفكير عميق لا منتهي وتدخل بحلقة مفرغة من جديد، لتكمل دور البطل بإتقان في الدراما التي تعيشها، وبذلك تكون اخترت انتحارا بطيئا من نوع آخر، تتكلف الأيام المتشابهة بتنفيذه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.