شعار قسم مدونات

الخيال والواقع في الشِعر

Blogs - Books
لا يكاد يوجد شاعرٌ في الأرض إلا وقد سُئلَ هذا السؤال يوماً: هل قصائدك من وحي الخيال أم أنها واقعٌ مرّ بك؟. شيءٌ ما يدفعُ القّراء لتكرار هذا السؤال، وللتفكير دائماً وبخاصة عند القصائد الجميلة بالنسبة لهم هل هذه القصيدة خُلقت من الخيال أم أنّها نَتاجُ تجربةٍ عاشها الشاعر. وبما أنني شاعر، فسأُجيب عن هذا السؤال.

بالمناسبة، أنا متأكد لو أنَّ شاعراً غيري كان يكتب هذه التدوينة لم يكن ليكتب عن نفسه: "وبما أنني شاعر"كان سكيتب" وبما أنني أكتب ما أرجو أن يكون شِعراً" وما هذا إلا من باب التواضع المُصطنع، ولكنني أؤمن بشاعريّتي وأؤمن أنهُ لولا إيمان الشاعر بشاعريّته لما آمن بهِ أحدٌ من العالمين.

نعودُ لسؤالنا: هل القصيدة من وحي الخيال أم أنها واقعٌ مـرَّ بالشاعر؟. لا تخلو قصيدةٌ على وجه الأرض من الخيال والواقع معاً. أمّا الواقع فهو الأصل وأمّا الخيال فهو الفرع، فكلّ قصيدةٍ كُتبت بأيِّ غرضٍ كانت ولأيِّ غرض، لابّد وأنّها واقعٌ وخيال.

زواجُ الواقع بالخيال يُنجبُ القصيدة، وما عدا ذلك فإنّه مضيعةٌ للوقت مضجرةٌ للقلب ومفسدةٌ للشعر، وحرق لقلوب القرّاء وأذواقهم.

قد يسأل سائل: والعاطفة؟. العاطفةُ هي النخاعُ الشوكيّ للقصيدة، وبدونها ستكون القصيدة مُقعدة. إذن.. الواقع الذي يؤثرّ بالشاعر ويستفزّه ليكتب، فإذا بدأ بالكتابةِ كان الخيالُ – والذي يختلف من شاعرٍ لآخر- العامل الأبرز في تكوين القصيدة، ثمّ تأتي العاطفة لتُبارك هذا الزواجَ أو تلعنه. لن تستطيعَ تقبّل قصيدة ما تعتمد على واقع مرّ به الشاعر دون أن يأخذك الشاعر بخيالاته إلى مالا يمتّ للواقع بصلة.

ولهذا كانت صيغُ المُبالغة الكثيرة في الشعر العربي. المتنبي أراد أن يصف تعبه الجسدي والنفسي الذي مرّ به في الواقع فاستعان بخياله الواسع جداً وبالغَ مبالغةً لو بالغها غيرهُ لمسح النقّاد بكرامتهِ الأرض، ولكنّهم مع المتنبي اكتفوا بقليلٍ من العَتَب واللوم: يقول: 

كفى بجسمي نحولاً أنّني رجلٌ

لولا مُخاطبتي إيّاكَ.. لم تَرنِ!

برغم أنّ هذه المبالغة مقيتة لكنّها وصفت لنا حالة الشاعر النفسية -بما لا يكون- في مبالغةٍ أقل. كتابة الشاعر للقصيدة بعيداً عن الخيال والعاطفة لن تُنجب له شِعراً، لن تُنجبَ إلا النظم. وبنفس الوقت أن يكتب الشاعر معتمداً على خيالهِ -كما يفعل -آلُ الحداثة- غالباً، سيُنجب لهُ خيالهُ نَظماً خالياً من الشِعر، أو في أحسن الأحوال قصيدةً معاقة.

ولقد رأيتُ هذا في أغلب الحداثيّين، والذين يتحدث أحدهم في قصيدته عن غروب شمس تموز في "هايد بارك" وهو لم يسبق أن غادرَ خيمتة في الصحراء إلا إلى بيته الكائن في صحراء أخرى تُسمى زوراً "مدينة"، أو عن "مقهى الفوكيت في باريس" وهو لمَ يزر إلا مقهى حارته.

ولقد رأيتُ هذا في أغلب الحداثيّين، والذين يتحدث أحدهم في قصيدته عن غروب شمس تموز في "هايد بارك" وهو لم يسبق أن غادرَ خيمتة في الصحراء!!

هذا الخيال الواسعُ بلا واقعٍ يقفُ عليه الشاعر ولا عاطفة يتكئُ عليها ما هو إلّا كلام سيموت قبل موت الشاعر. البيئة وواقعها أهم مكوّنات الشاعر، والذي لا يستطيع وصفَ واقعه بخيالهِ وعاطفته لن يستطيع وصف واقع الآخرين ولو اجتمعت الإنس والجنّ معه لا شياطينُ شعره فحسب.

وعليهِ فإنّني لطالما رفضتُ طللباتٍ للكتابة من قرّاء أُحبّهم وأُقدّر حبّهم العميق والكبير لشعري، فقط لأنّه واقعهم، والشعر شعور، كيفَ يكتبُ الشاعرُ عن شيءٍ لم يشعر به؟ أو واقعٍ لم يمرّ به؟ يكتبه بالخيال نعم، يحاول تقمّص الدور نعم، لكنّه في النهاية سيفشل، لأنّه ليس ثمّة شعورٌ حقيقي ولا تجربة حقيقية.

زواجُ الواقع بالخيال يُنجبُ القصيدة، وما عدا ذلك فإنّه مضيعةٌ للوقت مضجرةٌ للقلب ومفسدةٌ للشعر، وحرق لقلوب القرّاء وأذواقهم، وإن انفصال الشاعر عن واقعه واسفافه بالخيال أو العكس لهو أحد أهم العوامل التي ساهمت في تراجع شعبية الشعر ونزوله عن عرش الأدب العربي لتصعد الرواية، ولكن بما إنني كتبتُ الشعر واختارني واخترته فلا تخافوا يا قوم، أنها لها، وسأعيدُ عرش الشعر للشعر عمّا قريبٍ بإذن الله، وستذكرونَ ما أقول لكم، وإيّاكم وشتمي في ظهر الغيب على تصريحي هذا فإني لن أسامحكم، هذا ما عندي والسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.