شعار قسم مدونات

التحرش لا جنس له

blogs اكتئاب
(عن الفضيلة التي تفرق دمها بين الجنسين وعالم ما بعد "تحرير المرأة")، ما إن تبدأ المرأة بالحديث عن حريتها المرسلة في أن تخرج بالشكل الذي يحلو لها حتى يثبت عندي أنها لا ترى أي حق للرجل في أن يعيش بسلام من حرب تدق طبولها.


ما يهولني في الحقيقة هو كم النساء اللاتي حظين بحقهن في التعليم ونلن من علوم الدنيا ما لم يتح لكثير من الرجال أن ينالوه، النساء المثقفات، الكاتبات والشاعرات، الباحثات والحقوقيات والثائرات… من يحملن الشهادات الجامعية والشهادات العليا اللاتي لا زلن يجهلن أو ربما يتجاهلن حقيقة كونية كبرى بينما تدركها أي فتاة في عمر المراهقة وهي تستعد للخروج بكامل زينتها لتعلن الحرب.

إن الكعب العالي وطلاء الأظافر وأحمر الشفاه والعبق الفواح الذي تحضر به النساء الى أماكن الدراسة والبحث والعمل بينما أطفالهن الرضع في دور الحضانة لأمر مفزع، لا يفتح باب التساؤلات المقلقة حول ماهية الأنوثة لدى"النخبة" في هذا العصر فحسب، بل يطرح أيضا تساؤلات أكثر شمولية حول جدوى الوعي الحقوقي وثورة الحريات العارمة، والحال التي يؤول إليها الانسان في ظلال الحداثة وعصور ما بعد تحريض المرأة ومساواتها الجوفاء بالرجل.

كذلك سيعترض المتضررون من الرجال الذين يحبون أن تشيع الفاحشة، والذين ترعبهم فكرة أن تعم الفضيلة، والرجال المنهكون في ماراثون "الانفتاح والتحضر".

إن تبرج المرأة لم يعد كما كنا نظنه دائما مجرد مرحلة لجذب الرجل الذي سينهي فصول استعراضها أخيراً بسطوة غيرته المحببة لديها حينئذ، ويالها من فكرة عاقلة تلمع في ذهن المرأة إذا ما قارنّاها بما آلت إليه الأفكار في رؤوس النساء اللاتي أضعن أنفسهن في متاهة التحرر ووقعن في فخ المساواة، فلقد بات واضحا أن شهوة بعض النساء في التوهج والسطوع لا يُشبعها انتباه رجل واحد ضمن إطار واحد يقصرها عليه، ويبدو أنه لم يعد ممكنا لهذه الشهوة المثقفة أن تظل حبيسة الجدران والأطر، لم يعد ممكنا للحياء ولا لغيرة الرجل ولا لأعراف المجتمع أن تقف في طريقها بعد الآن.

أياً كانت الدوافع وراء خروج المرأة بكل ذاك الصخب – وحتى لو افترضنا أنه تصرف عفوي محض منزوع الدوافع جرى بحكم العادة وطبيعة النشأة لدى بعض النساء لا أكثر – فالنتيجة واحدة وهي موضوع حديثنا هنا. إن تحرش الرجل غالبا ما يكون – بشكل أو بآخر – رد فعل على تحرش استفز غريزته بكل بدائية، هذا لا يعطي المبرر ولا يضفي الشرعية على أي حال، وهو أمر لا خلاف فيه لدى العقلاء، كما أنني لست هنا في صدد الحديث عن الحالات المعقدة من التحرش كالتي قد تتعرض لها المرأة المحتشمة في حالات لا تمثل الأغلبية.

إن ما نراه اليوم في الشارع وفي أماكن التسوق وأماكن العمل والدراسة من تجاوزات أخلاقية أو مضايقات تتعرض لها المرأة لا تبدو وكأنها مجرد تحرش من طرف واحد، وإذا أردنا أن نبدو واقعيين وموضوعيين – أو بالأحرى أكثر صراحة – فإن علينا ألا ننكر أنه تحرش تبدأه المرأة على الأغلب سواء قصدت ذلك أم لم تقصد؛ وذلك حين تخرج النساء على اختلاف وجهاتهن في مهرجان يومي وسباق أزلي تبرز فيه مفاتنهن إلى حد لا يترك للرجل متسعا لصرف النظر، وربما خضعت بنبرة مبتذلة وضحكة منسابة لا يمكن لرجل رصين أن يحسن الظن معها، ولا لمن في قلبه مرض أن يُردع فيكف عن الأذى.

وكأن المرأة المغمورة بروح النسوية المستوردة ودعاوى التحرر تنكر علينا كل ذلك، وهي تريد من الرجل أن يكون خارقاً، فيمشي على الأرض دون أن يراها بكل زخرفها – ولعل هناك من يرانا نبالغ في حسن الظن بها في ذلك – بل إن عليه أن يكون قديساً لا يقع في قلبه منها شيء يستثير الشهوة "الدنيئة" ولا يخطر في باله خاطر إن مرت به بغنجها "البريء" فلا يهتز له طرف وإن تعرت!

المفارقة أنها وإن سلمت من التحرش فهي تحمل خطيئة كل من مرت به ابتداءً بعامل النظافة -الذي ربما لا تشعر بذكورته- وليس انتهاءً بأستاذ الجامعة، سواء حين تتبرج لجذب رجل واحد أو حين تفعل ذلك،  لأنها تحب نفسها كما تقول وتحب كونها أنثى أن تبدو "جميلة" فحسب، وأن لا نية لها في لفت انتباه الرجل الذي لا تكترث لأمره، فالشيطان في عقله وليس في جسد المرأة -كما تقول إحداهن-.

وكل ذلك من أعراض الترنح العقائدي والتشنج المصاحب لعدوى العلمانية وحمى العولمة وصراع الحضارات وأزمة الحداثة؛ فجيل اليوم يتصور في جملة ما يتصوره أن أحكام الاسلام وضوابطه في الاختلاط واللباس تندرج تحت ما بات يعرف ب "العقل الجمعي" كعادات جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان، وفيما تبدو رجعياً متخلفاً غارقاً في شبقك الجنسي هائماً في أدغال بهيميتك إن آمنت بها يحتفي العالم برجل الشرق المستغرب الذي يدين اليوم بدين "الإسلام المعتدل" -.

وفي التسمية بحد ذاتها ما يكفي من تحامل على الإسلام واتهام مبطن بأنه دين انغلاق وتشدد في أصله مقابل ما ينطوي عليه الدين الهجين من تسامح واحتواء منقطع النظير – فهو الاسلام الذي يطبق معايير المعاصرة والحداثة ويجتاز المواصفات القياسية في التحضر والانفتاح ويرحب بالنسوية المتنمرة المستوردة ويتناولها في الأحضان داخل منظومة عجيبة!

إن تحرش الرجل غالبا ما يكون – بشكل أو بآخر – رد فعل على تحرش استفز غريزته بكل بدائية، ولكن هذا لا يعطي المبرر ولا يضفي الشرعية على أي حال.

ربما لن يعجب الحديث الكثير من النساء لا سيما فتياتنا اللاتي أكلت الروايات النسوية من رؤوسهن، وربما شتمتني النساء المغدورات كسيرات القلب، والنساء اللواتي لهن ثأر مع الرجل، والنساء اللواتي يعتبرن الأمر خيانةً عظمى للامبراطورية النسوية وتبريرا للتحرش وذريعة تهدى للرجل على طبق من ذهب ليمارس السفالة…

ربما سيعتبرنه انحطاطا اخلاقيا وابتذالا دنيئا تمارسه امرأة تسعى لإرضاء الرجل ومحاباته، وسيخطر ببال نساء أخريات أن الأمر برمته مجرد ذم مفلس من امرأة مكبوتة لا تجد سبيلا إلى ما تتمتع به نظيراتها بما يدعو للشفقة… وبالعامية: (مش صاحلها) و"اللي ما يطول العنب حامضا عنه يقول"، وقد أوصم بالتشدد والتطرف وربما الانتماء لداعش من قبل النساء اللاتي يعتنقن الديمقراطية ويعتقدن أن الحجاب نمط لباس لا أكثر وحرية شخصية بحتة أو نافلة تندرج تحت المباح والمندوب – أو فرض كفاية في أحسن الأحوال -.

وكذلك سيفعل المتضررون من الرجال الذين يحبون أن تشيع الفاحشة والذين ترعبهم فكرة أن تعم الفضيلة، والرجال المنهكون في ماراثون الانفتاح والتحضر بعدما قطعوا اشواطا في الانسلاخ من الفطرة والثورة على الهوية، المتنافسون في بطولة فلت الحبل على غاربه لهوى النسوية المجنونة… الرجال الذين حلقوا ذقونهم بمعجون الحداثة وسقطوا من شاهق درجات التكليف وشرف القوامة إلى هوان يستعاذ بالله منه! هي كلمة كان لا بد لها أن تقال في وجه سلطان التبرج الجائر، والله حسبنا في ما آلت إليه الحال، فالفتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.