نسافر لنترك معتقداتنا ومسلّماتنا خلفنا في البيوت، لنرى العالم من منظور جديد، منظور مجرّد من كل الأحكام المسبقة. عندما نسافر، الأهم من النظر للأماكن الجديدة أن ننظر بعيون جديدة، والجميل أيضا أن السفر يساعدنا في إحضار عيون جديدة للأشخاص الذين نقابلهم فنحن بالنسبة لهم أجهزة تلفاز متحركة ونشرات أخبار حية مباشرة! قرأت مرّة في مقالة لأحد الكتّاب الرحّالة: هناك نقاش سمعته كثيرا للتفريق بين السائح والمسافر، الكثير من الفروق، لكن بالنسبة لي الفرق الجوهري هو أن أحدهم ترك كل افتراضاته خلفه وارتحل بينما الآخر أخذها معه، من النوع الثاني، السائح هو مجرد شخص دائم الاشتكاء -كل شيء هنا مختلف عن بلدي- بينما المسافر هو شخص يتذمر -كل شيء هنا مثل طوكيو- أو القاهرة أو طهران، المسافر يبحث عن المجهول لا عن راحته.
السفر يساعدنا لنرى أماكن وقيم ومشاكل بالعادة نتجاهلها، لكن إذا تعمّقنا أكثر، نجد أن الأهم من الأماكن الجغرافية هي تلك الأماكن الوجدانية التي نسافر لها عند تغير مكاننا الجغرافي. |
عندما تأخذ افتراضاتك وأحكامك المسبقة معك في السفر فأنت ستنظر لكل شيء مختلف بمنظور سلبي متشائم، ستسافر لتثبت وجهة نظرك بينما إذا تركتها ستسافر لتتعلم. أتذكّر يوما عندما أيقظني مسافر برازيلي في أحد معابد الهند بعدما عرف أنني أردني: "أخبرني عن بلدك؟" استغربت من فعله وسألته عن السبب وماذا سمع عنها: "هذه المرّة الأولى التي أقابل فيها شخصا من الأردن، سمعت الكثير، لكنّي أفضِّل أن أراها من عيون محلّيّ بدلا من السماع عنها"، تعلَّمت منه أن حاسة السمع وحدها لا تكفي لنعرف عن الآخرين، ولا حتّى النظّر إن لم تكن نظرتنا مجرّدة.
نسافر لكي نهدم الأصنام التي بنيناها في ذواتنا، سواء أعجبنا ذلك أم لا، سنتعلم أن الأشياء التي نعتبرها عالمية هي في الحقيقة مؤقتة ومحدودة، مثلا عندما تهبط في الهند ستشعر أنك هبطت في كوكب آخر. كنت أعتبر سابقا أن حلاقة اللحية والشعر بين الحين والآخر هو شيء روتيني عالمي إلى أن قابلت أحد الهنود السيخ في البندقية وتفاجأت عندما نزع عمامته أن شعره يصل إلى قدميه ولحيته إلى منتصف صدره، سألته عن السبب فأخبرني أن حلق شعر الرأس أو اللحية هو من أكبر المعاصي التي من الممكن أن يرتكبها السيخي، وإذا عاد لمنزله يوماً من دون لحيته فقد تتبرّأ عائلته منه. هكذا تحوّل ما كنت أعتقده عالميا إلى فعل محدود، ومثله متسلقين الجبال الذين يقضون أسابيعا يتدربون لصعود أحد الجبال، ليجدوا أن هناك أطفالا يعيشون على هذا الجبل ويصعدون له وينزلون بشكل يومي ليحطّموا بذلك كل ما كان المتسّلق يعتبره إنجازا، الإنجاز والمصاعب كما الصواب والخطأ، كلها مفاهيم نسبية.
السفر يساعدنا لنرى أماكن وقيم ومشاكل بالعادة نتجاهلها، لكن إذا تعمّقنا أكثر، نجد أن الأهم من الأماكن الجغرافية هي تلك الأماكن الوجدانية التي نسافر لها عند تغير مكاننا الجغرافي، فكما قال شمس التبريزي "الأهم من سفر المكان سفر الوجدان بداخلك، فما نفع تبديل الأماكن وأنت أنت!"، لهذا بالسفر، نحن في الحقيقة ومن دون خيار، نزور أماكن وحالات ذهنية مخبّأة في عقولنا بدأت تصدأ ونادرا ما يكون عندنا سبب لزيارتها! لكن لنصل لهذه الأماكن يجب أن نخرج من مساحة الراحة التي نضع أنفسنا بها. لهذا تجدني في إيطاليا مثلا جالسا أمام مائدة عشاء برفقة عائلة إيطالية لا أعرف لغتهم وأتحدث مع أحدهم بلغة الإشارة عن البقرة التي كان يحلبها اليوم لتكون كرات الموزاريلا موجودة أمامنا الآن، وتجدني في سيريلانكا أركب القطار على الدرجة الثالثة المزدحمة بالرغم أن الفرق بينها وبين الدرجة الأولى نصف دولار، وتجدني في الهند نائما في أحد المعابد لأستيقظ فجر اليوم التالي مستعدا لأداء رياضة اليوغا مع روّاد المعبد.
نسافر لنقع في الحب، إذ أن الفارق بين وقوعنا في الحب والسفر أن إحداهما علاقة بإنسان والأخرى بتجربة، كل رحلة جديدة هي علاقة حب جديدة، لا ماضي، لا مستقبل، للحظة على الأقل. |
أسافر لمجموعة من اللحظات أسمّيها "لحظات البركة"، هذه اللحظات تأتيني في أوقات عشوائية وتكون مركزّة في أيّام السفر، لحظات أشعر فيها بالسعادة المطلقة لأني أنا، ولأني على هذا الكوكب الجميل، لأن هذا العالم هو بيتي، لا حدود، لا نزاعات، لا مشاكل، أشعر أني، بالرغم من أين كنت، في بيتي وفي بلدي لأني أنتمي لكل العالم وهذا الكوكب هو مكاني.. في هذه اللحظات أغلق عيني وأحاول جهدي أن أتمتع باللحظة لأبعد الحدود، أحاول استيعاب كل ما يدور حولي في لحظة، أصوات الناس وهم يتكلمون لغة لا أفهمها، رائحة الهواء التي يتميز بها كل بلد عن الآخر، موسيقى الشارع وأصوات السيارات والباعة المتجولون، هذه اللحظة هي لحظة مليئة بالحب والسعادة الغير مشروطة في السفر التي تعطيني دافعا لأنطلق في مغامرة تليها.
نسافر بحثا عن خصوصيتنا، عن أنحاء هذا الكوكب التي لا يستطيع الناس الحكم علينا فيها حيث نتحرر من كل القيود التي فرضت علينا قبلا لنكون فقط، نحن. قد يكون هذا السبب الذي يجعلنا نشعر بالحرية أكثر وأكثر كلما ابتعدنا عن بيوتنا. بالتأكيد هناك مخاطر لذلك كجميع أنواع الحرية، لكن المهم هو أن نشعر وكأننا ولدنا من جديد، أن نحيط أنفسنا كما في طفولتنا، بما لا نفهم، وحيث تصبح اللغة كما يستخدمها الأطفال، ليست أداة للتعبير عن النفس وإنما مجرد محاولات ليكون ما نقوله ذا معنى لمن أمامنا.. والحريّة الأخرى التي نذوقها هي حريّتنا ممّا نملك، عندما نترك كل شيء وراءنا ونحاول أن نخلق متسعا لحياتنا في حقيبة ظهر ترافقنا في ترحالنا.
نسافر لنقع في الحب، إذ أن الفارق بين وقوعنا في الحب والسفر أن إحداهما علاقة بإنسان والأخرى بتجربة، كل رحلة جديدة هي علاقة حب جديدة، لا ماضي، لا مستقبل، للحظة على الأقل. لو شعرت في كل علاقة حب بنفس شعور زيارة إلى بلد غريب، حيث لا تتكلم اللغة، لا تعرف أين تذهب، تعوم في الجهل، كل رحلة لبلد غريب من الممكن أن تكون علاقة حب حيث تتوقف لتتساءل من أنت ومع من وقعت في الحب. كل الرحلات الجميلة، مثل الحب، تشوّش ذاتك وتتركك في مكان بين الخوف والدهشة.
نسافر لنستعيد الأمل الذي فقدناه، الأمل بالإنسان، بعد أن فرّقتنا السياسات والحكومات ووسائل الإعلام، نسافر لنكون أقرب من الشعوب، أقرب من الحقيقة، أقرب للسعادة، أقرب لنا نحن.
– هناك عدة اقتباسات في هذه المقالة مترجمة من الكاتب "بيكو لير"
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.