لماذا نؤمن نحن المسلمون أن إبراهيم عليه السلام كان أمة بذاته، كان مثالاً للبشر الذي جمع بين قوة الهجوم والصبر في الدفاع. الصدام العقائدي وخطورته هو جوهر القصة، في ذلك الوقت الذي يؤمن فيه الجميع بأن الرب جماداً فقد يكون قمراً وقد يكون شمساً وقد يكون صنماً من خشب صنعه والد إبراهيم عليه السلام بنفسه يأتي نبي الله بدعوة تخبر الناس أنكم منذ ولدتم كنتم تعبدون كذبة كبيرة ليست لديها القدرة على أن تنفع نفسها حتى.
كان الرفض والصدود عن الاقتناع رد فعل طبيعي فكيف يأتي من يخبرني أن الإله الذي أعبده منذ ولدت حتى صرت رجلاً وعبده أبي من قبلي وأنت تعرف أن أبي بالنسبة لي رجل يعرف كل شيء ويفهم كل شيء وهو من أخبرني أن هذا هو الإله فكيف بك اليوم تخبرني أن ذلك كله ليس حقيقياً وأنني كنت واهماً وأن أبي جعلني أعبد إله ليس حقيقياً طوال هذه السنوات.. أنت تقصد أن أبي كان رجلاً أحمقًا لا يعرف شيئاً كما كنت أظن أهذا ما تريد قوله إذن.
كل تلك قد تكون إجابة جاهزة تدفع بها النفس البشرية في ذلك الوقت إلي العقل والقلب حتى يطمئن كلاهما ويدفع عن نفسه الشك الذي قد ينفذ إلي العقل والقلب ثم يبدأ بعد ذلك أصحاب النفوس المتشابهة في التجمع وإخبار بعضهم البعض بما أخبرهم به قلوبهم وعقولهم فتكون الكثرة خير دليل يطمئن أصحاب هذه النفوس، وهنا جاء الدور الحاسم لنبي الله إبراهيم عليه السلام.. لتدخل المواجهة في مرحلة التطور الفعلي، لنتوقف عن الكلام ونثبت أن الأصنام ماهي إلا خشب أصم أبكم ليس لديه حتى القدرة علي حماية نفسه فدمرها سيدنا إبراهيم عليه السلام بفأسه وجعل الفأس علي كتف كبيرهم فكان تلك واحدة من أخطر حلقات المواجهة..
أوقفت معجزة النار لسيدنا إبراهيم كل الحسابات البشرية والجمل المعدة مسبقاً عن عظمة الأصنام وقدرتها على إلحاق الهزيمة بأعدائها |
كانت إثباتاً فعلياً أن الأمر كله يشتمل علي مغالطة كبيرة وأن ما قاله إبراهيم قد يكون صحيحاً حينها لم يستطع قوم سيدنا إبراهيم تحمل الأمر أكثر من ذلك وصارت المواجهة المنطقية أصعب بكثير من قدرتهم علي المواجهة فأشعلوا ناراً احترقت لها طيور السماء حتي يضعوا داخلها سيدنا إبراهيم فتحرقه، كلما زادت النار اشتعالا وارتفاعا كلما زادت أمالهم في أن يخرج غيظهم النفسي كله في حريق إبراهيم وأظن أنه لو تم الأمر كما كانوا يريدون لتناقلوا فيما بينهم أن ربهم الخشبي هو من أحرق إبراهيم وأتخذه قرباناً وأن ربهم الأن قد رضي عنهم لأنهم نصروه علي عدوه!
لكن الله أراد أن تحترق قلوبهم المتعالية على الفهم والمنطق وضرب بعرض الحائط كله ما عرفه البشر في ذلك الزمان عن النار وقدرتها على الحرق والتشويه ليخرج منها نبي الله لم يمسسه سوء.. كانت تلك معجزة أوقفت كل الحسابات البشرية والجمل المعدة مسبقاً عن عظمة الأصنام وقدرتها على إلحاق الهزيمة بأعدائها.
كانت تلك مرحلة تاريخية خاصة بذاتها لكنها حينما تدخل في سياق التاريخ سنعرف أن خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من نسل سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل جد العرب وأن العرب الذين بُعث فيهم محمد هم أحفاد من بُعث فيهم إبراهيم وهو ما يطرح السؤال الأهم.. بعد كل الأدلة والبراهين والمعجزة التي تتوقف عندها كل حسابات البشر أستمر نفر من قوم إبراهيم العرب يعبدون الخشب وظلوا يتوارثون تلك العبودية الكاذبة فكيف يكون ذلك؟ ألم يكن العرب أيام رسول الله يكتبون الشعر ويتناقلون السير والقصص الملحمية عمن عاشوا قبلهم فكيف بهم يتناقلون سيرة إبراهيم ويظل عقلهم لا يقبل بما قاله محمد عليه الصلاة والسلام رغم أنه كان استكمالا وامتدادا لما بدأه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
في الوقت الذي كان العالم العربي يؤسس لنموذج ثقافي حضاري قائم على مرجعية عقائدية فشل العالم الغربي في تأسيس نموذج قائم على العقيدة فكان الحل بعدها بسنين طويلة وهو إخراج العقيدة من الحياة بشكل كامل والتأسيس للمنهج العلماني وروافده |
في العام 571 ميلادية كان ميلاد سيد الخلق سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وبعدها بأربعين عاماً كانت بداية انبعاث نور الفهم والعلم ليحارب الظلام في الجزيرة العربية، بحساب الأرقام كان ذلك في العام 611 من الميلاد، كان ذلك في عصر خيم فيه الظلام على أوروبا تحت حكم الدولة الثيوقراطية الدينية ومحاكم التفتيش وغيرها من الانتهاكات.
في الوقت الذي كان العالم العربي يؤسس لنموذج ثقافي حضاري قائم على مرجعية عقائدية فشل العالم الغربي في تأسيس نموذج قائم على العقيدة فكان الحل بعدها بسنين طويلة وهو إخراج العقيدة من الحياة بشكل كامل والتأسيس للمنهج العلماني وروافده التي ظهرت بعد ذلك مثل الليبرالية والاشتراكية واليسارية وتشتت الفكر بينهم وكان الإسلام وقتها هو النموذج الشامل الذي جمع حوله ملايين البشر في سنوات قليلة.
كل ذلك لم يكن هجوماً أو تقريعاً وإنما كان وصف وتحليل لصورة تاريخية تتمحور حول النموذج العقدي وأثره على باقي جوانب الحياة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.