ما كان يجوز لعمر مكرم كمصري أولا وكعالم من علماء الأزهر ثانيا أن يساهم في خلع خورشيد باشا والجلوس مكانه وإلا احرقت الدولة العلية القاهرة عن آخرها. |
وقد عاش عمر مكرم ببدنه واقفا أمام مسجده الصغير الذى كان من غرف عمليات الميدان بالاشتراك مع كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية، يقرأ في وجوه صغاره الآمال والآلام، ويسمع حشرجة حناجرهم ويشم معهم من الغاز المسيل للدموع، ويراقب تلك النخبة التي ما إن انطلق الشارع حتى تطلعت إلى التطهر في نهره الجاري المهيب، ولكن الكمد الذى أصابه حيا حتى مات أصابه في بدنه ـ الشاهد على ذلك التاريخ حتى وإن كان قد شارك في صنع أحداثه ولو بحسن نية ـ وهو يسمح لمن قامت ضد شخصه وأركان نظامه الثورة يخضع للعاصفة ويتنحى عن السلطة ويسلمها إلى أحد أهم أركان نظامه الذى قامت ضده الثورة، دون حتى أن يكون لأولئك الطليعة الثورية دور ما في التنحي أو في التكليف!
وقد حاول قطاع من تلك النخبة التي خذلت الحاضنة الشعبية للثورة وتركت زمام أمرها يقرره ويقدر له من قامت ضده شخصا ونظاما، تمرير وتبرير سقطتهم التخاذلية بعد وقت من سقوط قناع حماية "الجيش ويقصد به المجلس العسكري للثورة"، بالقول أن هذا الخطأ وقع فيه من قبل عمر مكرم ومن كان معه من العلماء وقاعدته الثائرة، وذلك بقراءة سطحية غير دقيقة وغير صحيحة، وقد تجاهلوا مشاركة عمر مكرم لهم في قلب ذلك الميدان ببدنه الصامت الحزين وسبابته التحذيرية وكتاب التاريخ في يمينه.
حيث أنه ما كان يجوز لعمر مكرم كمصري أولا وكعالم من علماء الأزهر ثانيا وكزعيم شعبي له قاعدته الشعبية المتينة أن يساهم في خلع خورشيد باشا والجلوس مكانه، ولو كانت الدولة العليّة استشعرت بذلك في ثورة عمر مكرم لما رحل خورشيد باشا، ولما حل محله محمد علي، وإن احترقت القاهرة بأسرها، فالمعمول به منذ وقت بعيد أنه ما كان للمصري في ذلك الوقت الدخول إلى ميداني السياسة والحرب، ومحمد علي في كل الأحوال تابع للعرق التركي، وإن كان في ذلك الوقت لم تكن ملامح القُطرية والجنسية قد بدأت في الظهور، فيكفيه كونه مسلما وحسب، ولهذا فعمر مكرم كان مرتبط بفكرة الشرعية والتبعية لخليفة المسلمين الذى كان من الممكن أن يصدر فرمانا بصبغة دينية تصف عمر مكرم بالعصيان والتمرد، كما وصف من بعد ذلك الزعيم أحمد عرابي في مواجهة توفيق.
وحتى وإن صح القياس، فعمر مكرم ومن كانوا على جبهته، هم الذين اختاروا البديل الثوري المتمثل في شخص محمد علي تحديدا، وهم الذين طالبوا بتسكينه بدلا عن المطلوب خلعه، فلم يكن محمد علي نائبا لخورشيد باشا ولم يكن وزير دفاعه أو رئيس مجلس دفاعه الوطنى العسكري، أو حتى من رجاله القريبين أو البعيدين، على عكس وضع المجلس العسكري المكلف من قبل الرئيس المطلوب خلعه من قبل الثوار، والذى شارك رئيسه في تثبيت أركان وقواعد دولة المطلوب خلعه لمدة لا تقل عن عشرين سنة كوزيرا للدفاع!
وكأن من صنع ذلك التمثال ووضعه في ذلك المكان تحديدا (ميدان التحرير)، كان يعلم أنه ستقوم في يوم ما ثورة شعبية خالصة تحمل ذات الوصف القديم، وهو (ثورة الناس الطيبين)! |
هذا فضلا عن تغير مصر جملة وتفصيلا منذ قيام تلك الثورة التي ترتب عليها قيام دولة محمد علي فيما بعد، وحتى قيام ثورة يناير ضد تلك الدولة ذاتها في نسختها الثانية التي وإن لم تكن ممثلة في أبنائه وأحفاده، إلا أنها ممثلة في ضباطه وجنوده، فلم يكن في ذلك الوقت البعيد كيانات أو جماعات لديها قدرة الحلول سياسيا محل دولة خورشيد باشا التقليدية البسيطة بمعيار هذا الزمن، على خلاف العصر الراهن الذى توفر لمصر فيه جيشا لابأس به من الكوادر والقيادات القادرة على الحلول محل دولة محمد علي (النسخة الثانية) الحديثة والمعقدة والعصرية!
ورُبَما يكون عمر مكرم قد سمع مثل ذلك اللغو وهو ينظر إلى تلك الجماهير التي خرجت ـ بعد وقت يسير ـ وبطريقة عجيبة ونادرة لتطالب بعودة دولة محمد علي مرة أخرى وبنسخة جديدة، وتطالب بهدم كل ما ترتب على ثورة الناس الطيبين الثانية (يناير)، التي ما أرادت لهم سوى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وذلك على مسرح السلطة المتمردة على شرعية تلك الثورة الدستورية في الثلاثين من يونيو، والذى بدأت من بعده مباشرة دولة محمد علي باشا في نسختها الثالثة. ورُبَما يكون عمر مكرم الآن واقف يردد في تفكّهْ حزين قول "أبو الطيب المتنبي": لكل داءٌ دواءٌ يُستطب بهِ، إلا الحماقة أعيتْ منْ يداويها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.