شعار قسم مدونات

رسالة لأبي في الغربة

مدونات، الأب

لا أدري يا والدي من أين أبدأ..  
فكل الحروف تتسابق اليك شوقا كشوق قلبي المحترق على بعدك وغيابك. عشت في كنفك وحظيت بحضنك الدافئ ثمانية عشر عاما. وقد كانت سنوات خير وفير وشلالات الحب فيها لا زالت تروي ظمأ روحي ونفسي المشتاقة، في تلك الفترة كنت طفله ثم مراهقة ثم بدأت أخطو خطوات نحو تحقيق ذاك الحلم الذي بذرت أنت بذوره في نفسي، وهو حلمي بالالتحاق بكليه الطب.

مرت تلك السنوات الندية على كلينا.. ولكن كانت مليئة بالحب والاهتمام من طرف واحد. ولا شك بأن قلبك الأبوي هو ذاك الطرف. كنت حينها في غيبوبة الدراسة الثانوية ألهث وراء العلامات وأسعى لكي أحقق الحلم وأسعد قلبك الرقيق الذي ينتظر طبيبته الأولى. لطالما ناديتني بأحب الألقاب الى قلبي. وكم كانت كلمه "دكتوره" تخرج من فمك كالشهد الذي ينسيني مراره السهر والجد والإرهاق الجسدي والنفسي.

والدي.. في كل يوم أهاتفك لأسمع منك كلمات تبكيني ليلا على وسادتي. كيف يتحمل قلبي تلك الكلمات الملتهبة في عشق الأب لابنته؟ كيف اتحمل وقع كلمة "اشتقت اليك واشتقت الى احتضانك وتقبيلك يا ابنتي" ألا تعلم يا أبي أن لي قلبا ينبض بحبك؟

لم أكن أدرك أن السنوات القادمة ستكون عجافا بلا سقيا أبوتك ولا دفء روحك ولا أكسجين كلماتك. فأنستني ظروفي أن أهبك قدر الحب والاهتمام الذي أهديتني إياه. وان فعلت فما كنت سأستطيع لذلك بلوغا. فأنت من جبلت على ذلك. وأنت المعطاء الذي يهب ابنته ولا ينتظر منها سوى شهادة تشق بها الطريق لتفرح بنبتتك التي تراها تكبر برعاية الله يوما بعد يوم. 

قصرت في حقك يا ساكن شغاف قلبي. قصرت كثيرا في حقك يا من طبع اسمه في ذاكرتي في أول أيام عمري. يوم أن كنت أسمع أمي تناديك فأشتاق لنطق حروف اسمك. وأصبحت تلك ذكريات لا تعود. ذكريات تضحكنا أحيانا وتلهب أشواقنا وتبكينا أحيانا اخرى. اليوم يا والدي، كبرت تلك الطفلة.. وها هي في عامها الرابع في كليه الطب.. كليه الحلم.. تقضيها في بلاد يقال عنها أنها الموطن، ولكنها ليست كذلك.. فموطني أنا حين أتحسس ذراعيك حول جسدي. أما الآن فأنا في غربة مقفرة. فأبي في الغربة يشقى لأجل هناء أبنائه. 

والدي.. في كل يوم أهاتفك لأسمع منك كلمات تبكيني ليلا على وسادتي. كيف يتحمل قلبي تلك الكلمات الملتهبة في عشق الأب لابنته؟ كيف اتحمل وقع كلمة "اشتقت اليك واشتقت الى احتضانك وتقبيلك يا ابنتي" ألا تعلم يا أبي أن لي قلبا ينبض بحبك؟ وهذه الكلمات تزيد من وطأه الاشتياق اليه! لم أعد أتحمل أن تشقى لأجلي. أنا التي يجب أن تجلسك على العرش الآن لتعيش ما بقي لها عند قدميك.

انا التي يجب أن تعمل لرد جميل ما صنعته لعل الله يغفر لي ويرحمني. والدي ادع الله لي أن يحفظ لي قلبك ويمد في عمرك. فأنا الفقيرة لله بهذا الطلب. أبي أخبر الله عني أني أريد لقياك قريبا، في وطنك وعلى أرضك. فكفى غربة وكفى ألما في البعد. أنتظر حضنك.. وأنتظر يوم تأتي العطلة لأجل أن أنام كالطفل بين ذراعيك. فلا أجمل عندي من سماع نبضاتك وأنا أستند برأسي على صدرك.. يا الله..  
اجعلني قرة عين له، واجعله في عينك التي لا تنام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان