شعار قسم مدونات

تأمّلات عامل نظافة في سوبرماركت الحياة

blogs - عامل نظافة

هل تعرفون شعور الحنين إلى الماضي حين نمرّ في أماكن كنّا فيها قديمًا؟ هذا ما يحدث معي أحيانًا عندما أدخل إلى السوبرماركت الكبير.. أعود للوراء ثلاثة عشر عامًا، لأتذكّر فترة ما بعد المدرسة وقبل الجامعة، التي قضيتُها في العمل، وكانت من أهمّ الوظائف التي عملت فيها آنذاك وظيفة "عامل نظافة". أمرّ بين الرفوف مع ابنتي سلمى في السوبرماركت اليوم، نلعب بين الممرات، فأتذكّر ذاك الفتى الذي كنتُه يمرّر الساعات بمكنسته ليكنس ما يلقيه الناس والأطفال، ويهرول بين الممرّات والرفوف ليحرص على نظافة المكان وترتيبه.
 

أتذكّر البَيض المزعج حين كان الناس يلقونه على الأرض ويهربون.. خطوات العمل سهلة ولكنها ليست لطيفة جدّا: يجب أولا أن أزيل البيضة بورق جافّ، ثم أقوم بمسحها بالماء والدواء.. وإلا فلن تُنظّف الأرضية كما يجب! يومًا ما تمّت ترقيتي وصرت "مسؤول عمّال النظافة"، حينها كنت سعيدًا بمنصبي الجديد، حيث كان دوري يكاد يقتصر على متابعة عمل الفريق وإعطائهم التعليمات! أذكر ذلك اليوم حين تمت تنحيتي عن ذلك "المنصب" الذي لم أهنأ فيه طويلا، وتم تكليف عامل جديد من اليهود المشارقة، وهو في سنّ والدي، ليكون مسؤولا عنّا. كان كثيرا ما يُظهر لي التودّد، قال لي يومًا: "لا تُتعب نفسك، ليس من الضروري أن تقوم بكل العمل مرة واحدة، ساعة فساعة، اذهب واشرب شيئا وخذ قسطًا من الراحة"!
 

أتاح لي عملي في السوبر ماركت الكشفَ المبكّر عن قُبح الاستهلاك، تلك الكميات الضخمة من الكربوهيدرات التي يرصّها الناس في العربات.. طوابير الدهنيّات البشرية وهي تصطفّ لدفع الحساب

ابتلعتُ الطُّعم.. وفي أثناء الاستراحة ذهبتُ لأصلّي، فما كان منه إلا أن باغتني وأنا أغسل رجلي على المغسلة أثناء الوضوء وهو يتحدث عبر الهاتف مع المسؤول الكبير ويشكوني إليه قائلا: "انظر.. إنّه يستحمّ هنا"! أما أجمل الأوقات فقد كانت قبل انتهاء الوردية بساعة، حيث كنت أمرّ على بلاط السوبرماركت كله بسيّارة المسح التي كنت أقودها منتشيا بين الممرات الفارغة من اكتظاظ المستهلكين الجشعين! كانت تجربة العمل كعامل نظافة تجربة ثرية جدا بالنسبة لي، حيث كنت أراقب عادات الاستهلاك لدى الناس وأشاهد عيانًا اللحظات الحاسمة، وهي ذلك الحوار الأول بين الزبون والمنتَج، ليقنعه الأخير بشرائه بمختلف وسائل الإغراء!
 

 أتاح لي عملي في السوبر ماركت الكشفَ المبكّر عن قُبح الاستهلاك، تلك الكميات الضخمة من الكربوهيدرات التي يرصّها الناس في العربات.. طوابير الدهنيّات البشرية وهي تصطفّ لدفع الحساب.. لعبة الحملات والألوان والإعلانات في كل مكان! كل عناصر الجمال والراحة والإبداع في السوبرماركت موجودة فقط لاقتطاع المزيد من المال من جيب الزبون.. كنت أشعر بذلك تماما عندما أجتاز ردهة قصيرة لأعبر للمستودع الكبير حيث كنت أعمل في ترتيب البضائع، هناك تختفي كل عناصر الإبداع والجمال والألوان.. فلن تجد هناك سوى أرضية سوداء وكراتين نمطية؛ فروّاد ذلك المكان هم العمّال، وهم غير مستهدفين بالمنتجات!
 

وهنا أتساءل: ألا يشبه عالمنا السوبرماركت تماما ولكن بحجم أكبر؟ بلى إنّه كذلك، ولله المثل الأعلى.. في السوبرماركت يظلّ الناس يهرولون بين الممرّات إلى أن ينتهوا من مشترياتهم ثم يذهبون لسداد "الحساب".. أو ربّما يجعلهم إغراء السلع ينسون الوقت، إلى أن تُذكّرهم مكبّرات الصوت بأنّ وقت إغلاق المتجر قد حان ولا مجال للبقاء! وفي الدنيا، ألسنا نهرول طوال حياتنا بين "ممرّات" الحياة نتنقّل بين زخرفها غافلين إلى أن تأتي لحظة الموت والحساب؟
 

يُجيد الشيطان في الدنيا "تزيين" السلع التي نحتاجها ليدفعنا إلى تجاوز الحدّ المقبول منها.. لنتورّط في الدنيا بأمراض عديدة نتيجة هذا الإفراط، ولندفع الثمن غاليا بعد الموت. في نموذج السوبر ماركت، يحدّد الشخص العاقل ما يريد من السوبرماركت قبل الانطلاق إليه، يكتب احتياجاته على ورقة، ثم يذهب إلى المتجر ليشتريها. وفي الدنيا، ثمة تعليمات أنزلها الله للبشر كي يتجنّبوا غواية الشيطان، وهي محفوظة واضحة في كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنْ هل قمنا بتسجيلها وحفظها جيّدا قبل الانطلاق في دروب الدنيا؟!
 

السوبرماركت ليس مكان إقامة، فأنت تقضي فيه ساعة كحدّ أقصى، تأخذ منه احتياجاتك وتسدّد الحساب، ثم تخرج من حيث أتيت! وكذلك حال الدنيا، لسنا فيها سوى عابري سبيل، نلتقط منها ما يُشبع حاجاتنا ويعيننا على فترة المكوث فيها عابدين لله إلى أن يحين موعد الخروج، لنعود من حيث أتينا.. لنعود إلى الله.. ألسنا إذن بحاجة دائمة إلى وقفة مع سلوكنا الاستهلاكي في هذه الدنيا، والذي يشبه أحيانا سلوك أولئك المتسوّقين الجشعين في السوبرماركت؟
 

لا تتسكّع في "الممرّات" وكن عابر سبيل.. وخذ من "رفوف" الدنيا ما يُعينك على آخرتك، لا ما يُثقل الحساب ويُتلف النفس!

نحن بحاجة في الواقع إلى وقفات طويلة نرتاح فيها من اللهاث في الممرّات، ونفكّر في خطواتنا إلى أين تمضي.. فحين ندرك موقعنا من الحياة جيدا ونكفّ عن التصرّف كمجرد كائنات استهلاكية نصبح أوسع أفقا وأكثر قدرة على تجاوز الصعوبات.. ندرك حينها أنّ هدفنا الأول والأساسي هو نيل رضوان الله، ومن ثم تهون كل مسائل الدنيا ويقلّ الاهتمام بأنماط الحياة التي يعظّمها الناس حين تكون هي محور حياتهم.. والأهمّ من ذلك، يقلّ مستوى الغفلة والإغراق في الاستهلاك.
 

ليس هناك أسوأ من العيش وفق النمط السائد الذي يتمحور حول تحصيل المتع الدنيوية وتتبع ما تعارف عليه الناس.. تتعلم وتتزوج وتسافر وتتسوّق وتحتفل وتعيش على إيقاع الجموع السادرة في غفلتها، دون أن يكون في حياتك قيمة عليا تسعى لتحقيقها، حينها سيكون الخروج عن النمط ثقيلا لأنك تعيش كحلقة في منظومة لا تملك الانفكاك عنها.. أما حين تتمسّك بمبادئ وغايات متجاوزة لاهتمامات الدنيا الفانية، فسيكون من السهل أن تنعتق من أغلال الأنماط التي يكاد الناس يقدسونها! لن تعود حينها بحاجة إلى تقبّلهم لأي خطوة تتخذها لأنك تطلب الرضا والقبول من الجهة التي تملك أمر الناس والعالم جميعا..
 

عن عبد الله بن عمر قال: أخذَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بمَنكِبي فقال: "كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل". وكان ابنُ عُمرَ يقولُ: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (صحيح البخاري). فلا تتسكّع في "الممرّات" وكن عابر سبيل.. وخذ من "رفوف" الدنيا ما يُعينك على آخرتك، لا ما يُثقل الحساب ويُتلف النفس!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.