شعار قسم مدونات

الخدعة

مدونات، السرطان
نمط منتشر إما بإنكار وجوده ووصفه بخدعة نصبتها الشركات الكبرى الربحية، وكأنه أجندة سوداء أعدت ضدهم، أو خشية ذكر اسمه -he who must not be named-، وكأنه جن يهابون استحضاره أو لعنة ستصيبهم لا محالة، عن مرض السرطان أتحدث.

وصل انزعاجي لأعلى المستويات لينفجر قلمي بهذه الكلمات عندما نشر أحد الإعلاميين الكبار مقطع فيديو يخبر المشاهد أن السرطان ماهو إلا "تجارة" وخدعة كبرى، و أنه مجرد نقص في أحد الفيتامينات و ليس بمرض، و يمكن علاجه باتباع حمية غذائية تعوض هذا النقص، عجب عجاب! ذلك الصراع العنيف الذي يخوضه محاربين السرطان بكل بساطة تم اختصاره ووصفه بنقص في أحد الفيتامينات، تلك الساعات الطويلة من العلاج الكيماوي المتعب المرهق تم اختصارها بحمية غذائية، الألم القاسي والعيون الذابلة والابتسامة المجاهدة وصفوها بنقص فيتامين.

لم تكن هذه المرة الأولى وليس هو الشخص الوحيد الذي وقع ضحية لهذا النمط من التفكير السطحي، ذلك التفكير الذي يلقي اللوم دوما على الغير، على تلك "الشماعة" الأزلية. السرطان هو مرض يتصف بضرر في الجينات بفعل عوامل خارجية متعددة غير محددة أو حتى مؤكدة، تؤي إلى نمو الخلايا بشكل غير طبيعي و خارج عن نطاق سيطرة الجسم، قد تصصيب أي نوع من الخلايا في جسم الإنسان، ذلك النمو الغير طبيعي بكل تأكيد سيؤدي إلى تعقيدات أخرى في وظائف ذلك العضو أو حتى الجهاز بأكمله، فإن صح القول يمكننا أن نقول: السرطان هو مجموعة أمراض وليس مرض واحد فقط.

الأمر تعقيداته تفوق زر "إرسال، انشر"، الأمر يشبه جيش في طريقه لمعركة كر وفر أمام عدو يجهله كليا، لا يعرف عنه شيئا سوى أنه عدوه

في مقطع الفيديو ذلك تم تشبيه مرض السرطان بمرض آخر يعرف بـ "scurvy" وهو نقص في فيتامين سي، نقص يؤثر في إنتاج الكولاجين في الجسد و امتصاص الحديد من الطعام، مما يؤدي إلى أضرار متعددة لا يوصف أي منها بأنها "سرطانية"، لا يتصف أي منها بنمو خارج عن سيطرة الجسم، بل يمكن علاجه بجرعات تعويضية من فيتامين سي، فأي منطق يقبل المقارنة بين مرضان مختلفان كليا في التصنيف؟

مرض ليومنا هذا الأبحاث مازالت جارية للوصول إلى حجر أساس يستند عليه ذلك المرض لإعداد خطط وقائية إن لم تكن علاجية، كيف تمكن في مقطع فيديو واحد مدته 4 دقائق تفسير الداء و إيجاد الدواء وطرح السبل الوقائية، أمر مازال يحير خلايا دماغي المذهولة. أن يتم تضليل المشاهد والجمهور بأكمله، تضليل مجتمع معرضين لهذا المرض أمر مثير للضجر وخطر جدا، أن يتم إدخالهم في دوامة تلك الخدعة الكاذبة، ليصبحوا جاهلين تماما بمهية هذا المرض الشرس، لنصبح جميعنا ضحايا ضعفاء له ولجهلنا، ذلك الاستخدام الركيك لحرية النشر على وسائل التواصل الاجتماعي التي تم منحهم إياها بكل تهور وعدم مسؤولية، لمجرد النشر فحسب أغشى عنهم حقيقة أن الأمر أبعاده تفوق الإعجابات والردود.

الأمر تعقيداته تفوق زر "إرسال، انشر"، الأمر يشبه جيش في طريقه لمعركة كر و فر أمام عدو يجهله كليا، لا يعرف عنه شيئا سوى أنه عدوه، يجهل ما هو عتاده ودوافعه، أليست هذه معركة عقيمة ونهايتها الخيبة و الخسارة لا محالة؟ مرض السرطان عدو شرس، لا يعرف الرحمة، لا يرَ الفرق بين شاب وعجوز، رجل أو إمراه، فقير أو غني، مرض السرطان يشبه النار الجائعة التي تلتهم كل ما تجده أمامها بمجرد أن تجد فرصة الاشتعال، لكن مفترق الطريق بين قوته و ضعفه هو مدى معرفة المحارب بعدوه السرطان، فمجرد المعرفة تعطي الشخص فرصة المواجهة وتجهيز العتاد لأي مباغتة خطرة.

ذلك التضليل قد يُمحي أي فرصة للنجاة، أي فرصة قد يمتلكها الإنسان ليقف لنفسه ويدافع عن حياته، ليكتفي فقط بلحاق السراب، من استخدام وصفات منزلية وهمية كانت أو حتى حقيقية لعلاج وهم تم تضليلهم به، بدلا من اتخاذ الإجراءات اللازمة من تشخيص أولي وخطط علاجية لتحقق أكبر فرص للنجاة، أي بكل بساطة ترك الأخذ بالأسباب، لأجل تلك "الشماعة" القاتلة!

ذلك الجنون الذي تلبسنا من رؤوسنا حتى أخمص أقدامنا، جنون وسائل التواصل الاجتماعي، أصابنا بمتلازمة "النشر الغير العقلاني"، الأمر لا يتعلق فقط بهذا الموضوع الخطر، وإنما في كثير من المواضيع الحساسة ذات الأهمية القصوى، مواضيع أصبح يعلوها ضباب أسود حالك الظلمة وسراب شديد بفعل تصرفاتنا الخالية من أي لون من ألوان المسؤولية، أمر قد يتوقف ويصل لخط النهاية لو أن الجميع تأكد من محتوى ما يبثه في عقول جمهوره و دائرته الاجتماعية، أن يتحدث ويتناقش في مجال علمه ولا "يُفتي" فيما لا علم له به، حفاظا على أرواح غيره.

أختتم حديثي بفئة أخرى لابد من ذكرها، هي تلك التي تهاب ذكر اسمه و حقيقة وجوده كمرض وواقع نعيشه، وكأنه كابوس مخيف لن نراه إن لم نفكر فيه، يتجنبونه تجنب تام و كلي، ليصلوا لدرجة الجهل، حتى تأتي لحظة توصف بـ "وقع الفأس بالرأس"، حينها ما فائدة الخوف؟ وكما يقول نجيب محفوظ (الخوف لا يمنع من الموت و إنما يمنع من الحياة).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.