شعار قسم مدونات

البيروقراطية الرقمية

blogs مكتب عمل

لا يشفَعُ "للبيروقراطية" أصلها التكويني اللفظي الذي يترجمها إلى "قوة سلطة المكتب" ولا يُحسّنُ من وجهها القبيح ما قاله عنها الألماني الذي تبنّاها في الماضي لأنّ تأثره بالنظرة العسكريّة الطاغية على ألمانيا حينها جعلته يعتقدُ بأنّ الناس بحاجة ماسّة لأن تُسيَّرَ أمورهم كما تُدارُ فصائل الجيوش وفيالق الحروب، ورغم أنّ ما يتميّزُ به "ماكس" من علمٍ واسع في الاجتماعيّات إلا أنّه لم يستطعْ أن يُقنِعَ المستفيد والمواطن البسيط "بالبيروقراطيّة" في نفس الوقت الذي نجحَ فيه نجاحاً باهراً بجذبِ أهل السلطة لمعتقداته الإداريّة ..

 

عالمنا العربي هو من شجّعَ هذه النظريّة ووجدَ فيها ضالّته ليركّز بها ما يصبو إليه مُحبّو المكاتب مفهوم القوة في الجلوس خلف طاولة لها أدراج ولها عرضٌ وطولٌ يحجُزُ المسئول عن المراجع والموظف عن المواطن خوفاً من اشتباكٍ بالأيدي أو رِكْلٍ بالأرجل، وبُنيت كل الأنظمة والقوانين والتشكيلات الهرميّة الإدارية واللوائح على أنقاض ما تركَهُ هذا الألمانيّ الناشطُ لتلبية رغبات ونزعات من يريدُ سلطةً دونَ أن يبذلَ للناس خيراً ومن يبحثُ عن منصبٍ دونَ أن يُشيعَ فيمن حوله احتراماً..

 

وحينَ انتفضَ العالم بالرّقميات والوسائل التقنية الحديثة في الاتصال ومُعالجة البيانات وإدارة المؤسسات واستُخدِمَ الأنترنت كأسرع طريقة لإنهاء المعاملات تأخّرَ "البيروقراطيين" كثيراً وحسروا على رءوسهم عصابة الهزيمة وعمامة الاستسلام للأمر الواقع ولكنّهم لم يستطيعوا أن يتخلّصوا من "بيروقراطيّة" نفسيّة استقرّت في نخاع عظامهم وأساسيّات فلسفتهم ومكونات ثقافتهم وادّخروها لحينٍ يقتنصون فيه فرصة سائغة لاستعادة الماضي المقيت والسالف المكروه..

 

في كلّ الدوائر الحكوميّة يرفع المديرون والمسئولون شعار خدمة المواطن والإسراع بإنجاز حاجات المراجعين ويلتقطون صوراً لأنفسهم وموظفيهم وهم يبتسمون لجهاز الكمبيوتر فوق كلّ مكتب وتحتَ كلّ سقف من مبنى الدائرة أو المصلحة، وبذلك يكون الأمر قد تمّ والناس قد رضُوا والمراجعون قد فرحوا بأنّ الفرج قد أتى وزمن التأخير والتسويف والتعطيل والتوقيع قد ولّى، ونحنُ اليوم نقول عن الملفات الخضراء وحديدها المضاد للثياب والأصابع والصّدأ وداعاً إلى غير رجعة ونحن متفائلون..

 

وجد البعض في سلطة المكتب الرقمي آلةً للقوّة لم يعثروا عليها في قوة سلطات المكاتب الحقيقية وأجبروا من "يبرمج" ومن ينفّذ الصفحات والأنظمة الإلكترونيّة على أن يكونَ "الروتين" والتعقيد سيدا الموقف حتى على صفحات مواقع الوزارات والمصالح الحكومية

ومواقع الوزارات والجامعات والمدارس والوكالات الرسميّة على الأنترنت تعجّ بأيقونات المعاملات التي يسمّونها إلكترونيّة وتغصّ بالنماذج التي يدعون بأنّ تعبئتها تتمّ عن طريق الشبكة العنكبوتيّة دون الحاجة لمراجعة نفس الدائرة والوقوف في "طوابير" طويلة كما كان يحدث أيامَ الصّور الشمسيّة والأصل للمطابقة واصطحاب شاهدين عدول يعرفونك ويزكونك..

 

يفخرُ بعض أهل القرار والمسئوليّة بأنّ استخراج البطاقة المدنية يتمّ آلياً والتقديم للجامعات الوطنية عن طريق الأنترنت وطلبُ الزواج من الخارج موجود في لائحة الطلبات بموقع الوزارة المعنية وتسجيل الأبناء في المدارس القريبة من المنزل يُحدّد إلكترونياً عن طريق الشبكة والبيع والشراء والتأجير والاقتراض والسؤال عن الحال والدردشة والخصومة والاعتراض والتسجيل في الانتخابات والتعليق على المقالات والكتابات واستقدام الخادمات والدعوة للولائم كلّ ذلك عن طريق سريع معبّد فأينَ "البيروقراطيّة" إذاً؟

 

إنّ هؤلاء القوم عائدون رقَميّاً ووجدوا في سلطة المكتب الرقمي آلةً للقوّة لم يعثروا عليها في قوة سلطات المكاتب الحقيقية وأجبروا من "يبرمج" ومن ينفّذ الصفحات والأنظمة الإلكترونيّة على أن يكونَ "الروتين" والتعقيد سيدا الموقف حتى على صفحات مواقع الوزارات والمصالح الحكومية العربية وداخل شبكات الإدارات والمؤسسات الرسميّة الإلكترونيّة لتُصْبَغَ التقنية بلون البيروقراطيّة الرماديّ القاتم ويصبحَ التطويل والتأخير أكثر مما كان عليه في واقع الأمر المكتبي الورقي القديم..

 

عندما يقول لك أحدهم بأنّ الأمر ليس بيده بل هو بيد "النظام" فلا تتهمّ حكومتك فهو يقصد "نظام" الحاسب الآلي المستخدم في إدارته، وعندما يُخبركَ موظّف بأنّه لا يستطيع مساعدتك فصدّقْهُ لأنّ مديره في العمل يحتفظ "بالباسورد" لنفسه فقط، فلا عمليّة تتمّ ولا تنفّذ إلا إذا عزَفَ بأصابعه الشمعيّة على "كيبورد" كلّ موظف ويعطيه الموافقة، وإذا وجدتَ في النماذج الإلكترونية التي ترغب في تعبئتها آليا 146 مربعاً وحقلاً يكرّر بعضها بعضاً ويعيدُ آخرها أوّلها فلا تلقي باللوم على مصمّم البرنامج ولكن اعلم بأنّ مدير عام شبكة الأنظمة الإلكترونية بهذه الجهة "بيروقراطيّ" متقاعد تعلّم الحاسب الآلي على كِبَر..

 

لا أجدُ مثلاً لهؤلاء سوى ما تفعله زمرة "غوانتانامو" بالمعتقلين هناك فهم يستخدمون التقنية الحديثة في التعذيب ويستخدمون أحسن الأجهزة وأرقاها وأكثرها دقة في المراقبة والمتابعة ويستخدمون أعقد الأنظمة الآلية في الحاسب الآلي للضغط على المستجوَبين وتوفير أجواء مناسبة وضاغطة لتدوير الحالة النفسيّة والعصبية للمعتقل كيفما يشاءون، وبيروقراطيو الرقمية الحديثة بارعون هم أيضاً في السيطرة على منافذ الحياة التقنية والمصالح الإلكترونيّة بتعقيد لا يفهمه إلا من أوتيَ علمَ "الهَكَرز" أو صبرَ أيوب..

 

ينكُثُ المتمسّكون بإجراءات المكاتب العقيمة عهداً قطعته التقنية الحديثة على نفسها بأنّ تُقدّم للإنسان السرعة والدّقة في نفس الوقت، ولكنّهم لا يصدّقون تصوّر هذا النقض في العهد لأنّها بالفعل تقدّم لهم سرعةً في التعقيد ودقّة في التعطيل

تُكتَبُ الخطابات عبر الحاسب وترسل عبر البريد الإلكتروني بتوقيع إلكتروني ولكنّها لا تعتمد إلا إذا طُبعتْ ووقعت بالقلم الأزرق القاتم ووضعت في مظروف بعد أخذَت نصيبها من أرقام الصادر والوارد وأرسلت بالبريد المسجل واستخدمَ في إرسالها سندات الاستلام والتسليم وقيّدَ ذلك في دفاتر المسئول الذي لا يجدُ حرجاً في إعادة تقييدها إلكترونيّاً أيضاً وهو يؤمن بأنّ الورَقَ أضمنُ وأنقى وأبقى خاصّةً وأنّ الخطاب مُذيلٌ بعدة صور للقسم الفلاني والشخص الفلاني والدائرة الفلانيّة وصورة أخرى للحفظ وخامسة للأرشيف..

 

ينكُثُ المتمسّكون بإجراءات المكاتب العقيمة عهداً قطعته التقنية الحديثة على نفسها بأنّ تُقدّم للإنسان السرعة والدّقة في نفس الوقت، ولكنّهم لا يصدّقون تصوّر هذا النقض في العهد لأنّها بالفعل تقدّم لهم سرعةً في التعقيد ودقّة في التعطيل ونظاماً متكاملاً من "الروتين" الإلكتروني المُمل..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.