شعار قسم مدونات

في مديح الحب

blogs - love

الحبّ مهدد

كالنهر والشعاع، أرى، لا تاريخ للحبّ، ولا يمكن البتّة اقتراح تحقيب متفق عليه على نطاق معتبر للحبّ. قد يقال إنّ الحبّ انحسر هنا أو هناك، في هذا الزمن أو ذاك، أو أنّ أحمقين وجها له ضربة قاضية. وقد يقال بأنّ أشكالًا متباينة للتعبير عنه ولتمثّله وعيشه تغيّرت عبر غرف زمنية ومكانيّة وثقافيّة ولغويّة مختلفة. لكنّ الحبّ كعاطفة أوليّة بدائيّة بحدّ ذاته لا تاريخ له ولا أحقاب. ولا تعريف معياريّ دقيق لهذا الكائن المائيّ أو النورانيّ الذي ينعقد في صدورنا فيقحمنا في خبرات وجوديّة خصوصيّة كونيّة الأفق وخطيرة، ويأخذنا واحدًا واحدةً إلى هناك، ضفة نهر أو حافة منحدر، كمن يمشي في منامه، أو يهذي من حمّاه. ولا شكل له حين ينسكب كأسه في جسدٍ شفّ منه.

 

العفويّة والمجازفة، أو الصدفة هي المدخل السليم، بحسب "آلان"، لإعادة اختراع الحبّ في عالم قحطٍ كهذا، مترف بالاختراعات التي لا تفيد، والتي توفر لذَّات جسديّة وحسيّة نوبيّة سريعة الانصراف، لا تلبث في النفس إلا برهة، لا تقتل ولا تحيي، وتلقي بإنسان هذه الحقبة في اغتراب وعزلة موحشة غير مسبوقة. يمكن المغالاة في ذلك وتبني تصوّرات مفرطة الخيال عن عفويّة والحبّ وبكارته، كأن تسقط عليك نجمةٌ في مساءٍ صريح فتتبلل بنورها، أو أن تقع مغشيًّا عليك من ضربة قمرٍ يميل للشحوب، أو أن يسري في جسدك إحساس انتعاش كأنّك تسحب يدك من ماء النهر بعيد انفلاق الصبح، أو أن تنتابك حالة صوفيّة من منطق أنثى كانت تقول كلامًا عاديًّا تمامًا، أو يستحوذ عليك أنين ناي "شقّ السماء إلى امرأتين ليثقب تفاحة الحبّ"، وهكذا.

 

الحبّ أمسى مهددًا من كلّ جانب، ومستهدف عن قصد كما لم يكن من قبل، وعلى الفيلسوف والشاعر والسياسيّ والمربّي، وغيرهم، أن يتصدوا لمهمة إسعاف ووقاية الحبّ.

لكنّ أقلّ ما يراد بالصدفة المقصودة هنا -كردّ على دعاية موقع فرنسيّ للزواج المرتّب عنوانها "حبّ بلا صدفة"- على الأقل كمدخل لمقاربة أزمة الحبّ المتفاقمة؛ يأخذ تعريفًا سالبًا إلى حدّ ما، مختصره التقليل ما أمكن من الحوسبة وإضعاف وسواس المخاطرة في هذا الشأن، إذ يرى "آلان"، وهو يعالجه، بأنّ الحبّ أمسى مهددًا من كلّ جانب، وأنّه مستهدف عن قصد وفعلًا، كما لم يكن من قبل، وأنّ على الفيلسوف والشاعر والسياسيّ والمربّي، وغيرهم، أن يتصدوا لمهمة إسعاف ووقاية الحبّ.

 

وكأنّ "آلان" لا يختلف كثيرًا مع ذلك، إنّ الحبّ هو هو، جوهرٌ ذُرئ أو تنّزل في زمن سحيق أو على لُقيا اثنين، وهو في حدّ ذاته لا يتبدل، وإن كان مسموحًا له أن يزيد وينقص، يلتهب ويخبو. غير أنّه اليوم يتعرض لخطر وجوديّ حديث يتهدده بالانقراض. حيث يرى "آلان" بأنّ أنماط حياة وتفكير محددة وموصوفة، ومذاهب سياسيّة وفلسفيّة واقتصاديّة بعينها، حديثة مستشرية، تحاصر الحبّ، وإمكانيّة الحبّ. 

 

حبٌّ بلا مخاطرة هو ادعاءٌ يشبه تمامًا دعاية حرب بلا قتلى، من هذه المقارنة بين مفارقتين نابيتين، يستهلّ "آلان باديو" مقاربته للمخاطر والآفات التي تتهدد الحبّ، دون أن يحاول تعداد مجموعة من العوامل، وإنّما فقط ليتفلسف في فهم الحبّ عبر ضرب أمثلة ذات دلالة على طبيعة العلل والتناقضات والمتلازمات المعاصرة الواسمة، والمنتشرة بتزايد، والتي تمثل بمجملها عوامل مستبطنة لمراضة الحبّ في الزمن الحديث.

 

إنّها دعاية واحدة حول حياة محوسبة خالية تمامًا من المخاطرة والتضحية، تهدد الحبّ، وهذا التهديد واسع وعميق، يعرّفه "آلان" بأنّه التهديد عبر عقليّة الضمان الشخصيّ، مثل كلّ أشكال الضمان على الحياة والصحّة والحوادث. وعليه يلاحظ مثلًا، بأنّ هذه العقليّة، استبدلت الزواج الذي ترتبه العائلة بعلاقة ترتبها هي، عبر ترتيبات ومحاصصات كثيرة مسبقة، تعمل على تجنب أي مصادفة أو مجازفة أو عارض، وأي لقاء واستمرار عفويين يرعاهما الحبُّ، وفي النهاية على سبيل المثال أيّة شاعريّة وجوديّة، أو أيّة فرصة لكتابة قصيدة فريدة في سجّل العشاق، وذلك من خلال تصنيف أساسيّ وفرديّ أنانيّ، وسواسيّ الطابع، لقائمة من المخاطر، من الميزات والمساوئ، من الإيجابيّات والسلبيّات، التي يتوخاها الاثنان. وإلى ذلك، صار يُرى بأنّ الحبّ مجرد تنويعة من تنويعات متعادلة لتحصيل اللذّة الشخصيّة، اللذّة مع الراحة، عبر الاثنين، لكلّ منهما على حدةٍ لا لهما معًا. وكذا ضرب من ضروب المتع المبذولة بلا مشقّة ولا مجازفة.

 

إنّ هذه الأنانيّة وهذه العقليّة تحرم مصابها نفسه من خوض أي تجربة ذات معنى ومن عيش أي رحلة شيّقة، كالحبّ. وهي أنانيّة مضاعفة طبقاتٍ عدّة، ويمكن في كلّ حالة الكشف عن نوعيات معينة من طبقات متغايرة. ففي حالة مشهد الجنود الذين يخوضون حروبهم في البعيد، ويعودون بـ"قصص البطولة" المفتعلة التي تلهب مساء الحبيبات المزعومات، وهنا الجنود "الغربيين" في سياق منتقى لأنّه طاغ ونافر، معولم أو مهلود (نسبة لهوليود)، تكشف عقليّة الضمان عن مشهد كريه لهذا "الحبّ المزيّف"، ربطًا مع دعاية "حرب بلا قتلى"، فالضمان، الحرب النظيفة من القتلى، هنا هو ليس للأفغاني أو الفلسطيني، للآخر، اللاغربيّ، اللامتحضر، اللامؤمّن عليه، والذين تقع على أرضهم ودورهم هذه الحرب، وإنّما لهذا الجنديّ "المعتدي" الذي يقتل بأسلحة ذكيّة عن بعد، فلا يخوض أي تجربة بطوليّة صادقة – حتى مع كونها حرب عديمة المشروعية ولا مبرر لها- تعبر عن حبّه العميق لبلده أو لقضيّته أو لحبيبته، كما كان يفعل الفرسان، أو هكذا يفترض، حين يدافعون عن حبيباتهم من غزوات الليل، على باب البيت وعند أعلى الحصن أو المدينة.

 

الضمان هنا لمواطن العالم المتقدّم، الذي "يستحقّ" وحده الضمان، والذي تتوفّر له كلّ أشكال الضمان في الأنظمة الصحيّة الجسديّة والنفسيّة المتقدّمة، في شبكات النقل والريّ والصرف، وفي الرقابة الأمنيّة، وغير ذلك، وحتى حين يذهب للـ"تضحيّة من أجل الأمّة"، يذهب بضمان، عنوانه حرب بلا قتلى، ليس فقط عبر درع أو مدرّعة واقيّة، بل، وهنا الكراهيّة، الكراهية الخالية بدورها من أي معنى، خاليّة من عاطفة الكراهيّة، الكراهيّة باردة الدم، عبر القتل الواسع عن بعد، بالطيّارة والصاروخ البالستي، بعيد ومتوسّط المدى.

 

من هذا المنظور، يُرى أنّ الحبّ مُهَدَّدْ، بقدر ما أنّ وجودنا ذي المعنى، ووجودنا، مُهدَّدْ. ومن هذا المنظور، يُعتبر بأنّ الدفاع عن الحبّ هو إحدى واجبات الفلسفة الأثيرة والحيويّة.

إنّ هذا الجنديّ، المارينز أو الطيّار، خالٍ قلبه تمامًا من أي معنى من معاني التضحية والفداء، لوطن أو أمّة أو قضيّة، إنّه رجل عديم الحبّ، وحتى الشفقة، من هذه الناحية. وكذلك من الناحية الأخرى، التي قد تعتبر شخصيّة، والتي قد لا يشكك بها، حين يتم تداول قصص هؤلاء العائدين من العراق أو كابل مطعمة بصورهم مع زوجاتهم، لإلهاب روح الأمّة الخاوية التي تحتاج لصيانة سينمائيّة مستدامة، عبر ترميزات متقطّعة لحبّ الفارس والبطل، في تقابل قديم شاعري بين الحبيبة وأرض الوطن، يتم استضافته في بيئة حداثية مقفرة على نحو نافر وصريح. لكنّه حبّ مزيّف بطبقتين من الزيف، فلا حبّه السابق لأنثاه حبّ حقيقي، لأنّه لا يحتوي على جوانب تضحية أو مجازفة، أو بالأحرى، لأنّه يتجنب ذلك تمامًا بوسواس الضمان. ولا حبّه لأرض الوطن أو اعتناقه للقضيّة ممّا يعتدّ به، لأنّه يخوض حروب بلا خطر، وبـ"لا قتلى".

 

إنّ هذه المقاربة للحبّ، المهدد في عصرنا، تؤشّر لمفهوم كونيّ للحبّ، لا يكون الحبّ بلاه. أو قل، هي مقاربة تنطلق من أنّ الحبّ هو مسرح الاثنين الذي يجسد تجربة كونيّة الأفق، تنبثق على الوجود عبر الصدفة واللقاء، ثم تستدام بحلوها ومرّها، لتعرّف بحقيقة جديدة، أو قل، لتذكّر من جديد بالحقيقة الأزليّة الواحدة.

 

لا يفوّت "آلان" هذه الفرصة، حين يُسأل، وهو في الحقيقة يلامس بجديّة وبخبرة الحكيم، مشكلة جليلة ومركبّة، متمثّلة في اضمحلال الحبّ أو مراضته، وقُرب أفوله من عالمنا ومن خبرتنا البشريّة، فلا يتسنى للشعراء ربّما بعد اليوم تحريّه إلا في الزهرة وطوق الحمامة؛ لتصفية بعض حساباته الشخصيّة ربّما، ولكن بحقّ. حيث يعتبر، أو يتّهم، في هذا السياق، مشيرًا ربما لدور الضمان والأنانيّة والفردانيّة المتزايدة في باثولوجيا الحبّ؛ يعتبر أنّ كليهما، الليبراليين الليبرتاريين، يميلون لاعتبار الحبّ مخاطرة غير ضرورية، إذ بظنّهم يمكن للمرء أن يعيش نوعًا من حالة الشراكة المعدّة من جهة، فيما يشبه الحبّ، أو ما يخيّل لهم أنّه حبّ،  والتي تدوم عبر توافقات "عيش مشترك"، لكن بدون أي إزعاجات، للأنانيّة الفردانيّة المخاتلة من الطرفين، وتنتهي عند أوّل صدام أو عدم وفاق، أو مضايقة للحيّز الفرديّ، أو اختيار جديد، كتبديل العمل أو السكن، أو الشريك. ومن جهة أخرى تتضمن "ترتيبات" لاستمتاع جنسيّ مسرف ومعزول. أمّا العواطف ففي الحالتين ضعها جانبًا.

 

من هذا المنظور، يُرى أنّ الحبّ مُهَدَّدْ، بقدر ما أنّ وجودنا ذي المعنى، ووجودنا، مُهدَّدْ. ومن هذا المنظور، يُعتبر بأنّ الدفاع عن الحبّ هو إحدى واجبات الفلسفة الأثيرة والحيويّة.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان